مجزوءة IV:الأخلاق
2- السعادة
المفهوم الثاني: السعادة
- تقديم مفهوم السعادة
تُعتَبر "السعادة" مطلبا لكل الناس، فهي الغاية التي يعملون من أجل بلوغها. لكن سعي الناس نحو "السعادة" تَعُوقه عبقات شتى ليس أقلها تعدد تمثلاتهم حولها. إذ يربط معظمُ الناس "السعادة" بتحصيل اللذات المادية أو الحسية (المال، الوفرة، الصحة، القوة، السلطة، إلخ.)، في حين يرى بعضهم أن "السعادة" قائمة على تحقيق اللذة مطلقا كنوع من الإشباع أو الرضى المعنوي (طمأنينة النفس، الارتياح والسكينة، الابتهاج والسرور)، ثم هناكـ فئة تَعُدُّ "السعادة" مرتبطة بـ"الكمال" أو "الفضيلة" كغاية قُصوى للوجود الإنساني (الحقيقة، الخُلود، الجنة). ومن البَيِّن أن كل امرئ يُحدِّد "السعادة" من خلال ما ينقصه أو يفتقده في شخصه أو حياته، بحيث يظن أن تحقيق مطلبه هو وحده الذي سَيُمَكِّنُه من بلوغها. وعموما، فإن موضوع "السعادة" يرتبط بطرح مشكلة تحديد غايات معقولة للفعل الإنساني في هذا العالم، من حيث إن تحديد هذه الغايات يتعلق بإعطاء معنى لوجود الإنسان ضمن هذا العالم بشروطه المُحدِّدة، ومن ثم إعطاء معنى للعمل الإنساني نفسه من الناحية العقلية والأخلاقية.
- الوضعية-المشكلة
تُعَدُّ "السعادة" مطلبا عاما لكل الناس أو لمعظمهم. لكن كيف يمكن تحديد معنى "السعادة"؟ هل هي مبدأ مُحَدِّدٌ لوجود الإنسان أم أنها غاية مُوَجِّهة لِأفعاله؟ هل تقوم على طلب اللذات المادية والحسية بالعمل على إشباع حاجات البدن أم أنها تتمثل في الوصول إلى إرضاء مطالب العقل أو الوجدان؟ كيف يمكن تحقيق "السعادة" عمليا؟ ما هي أنجع السبل للبحث عن السعادة؟ هل تحصل بالتأمل والاجتهاد أم أنها مسألة حظ وصدفة؟ هل هي مسألة شخصية وفردية أم أنها مسألة جماعية مرتبطة بتدبير شؤون المجتمع على نحو يُؤدي إلى نوع من التعاون والتضامن بين الناس؟ ما علاقة "السعادة" بـ"الواجب"؟ إلى أي حَدٍّ تُعَدُّ "السعادة" واجبا؟ وأي نوع من الواجب هي؟ هل هي واجب نظري مجرد أم أنها واجب عملي وأخلاقي؟ وهل هي واجب فردي وشخصي أم أنها واجب مدني وجماعي؟
1- تمثلات السعادة
- تحديد الإطار الإشكالي: ما هو معنى "السعادة"؟ كيف يتمثل الناس "السعادة"؟ وما هو مدلولها عند الفلاسفة؟
- مفاصل المعالجة
يرى أفلاطون (Platon) أن "السعادة" تتعلق بتدبير شؤون "المدينة" على نحو يجعل كل واحد ينصرف إلى أداء ما يجب عليه القيام به وفق مؤهلاته الطبيعية، مما يؤدي إلى انسجام فئات المجتمع، وهو الانسجام الذي على أساسه يتأتى انسجام أو اعتدال قُوَى النفس بحسب ما تقتضيه الفضيلة. ومن هنا فإن السعادة غاية تسعى إليها "المدينة" كمجتمع من الفئات والقُوى التي يُمكِن تحقيق التكامل والتضامن فيما بينها.
ويذهب أرسطو (Aristote) إلى أن "السعادة" غاية في ذاتها، فلا نطلبها كوسيلة تُمكِّنُنا من بلوغ شيء آخر، بل كل ما نبحث عنه لا نبتغيه في ذاته وإنما باعتباره خادما لغاية قُصوى هي "السعادة" التي تكتفي بذاتها فتجعل الحياة مكتملة ومرغوبا فيها. إن السعادة كخير أسمى تُشكِّل غاية لأفعالنا المتعلقة بممارسة التأمل العقلي وفق ما هو خير وجميل، أي وفق ما تقتضيه الفضيلة الخاصة بكل فعل. فما يُمَيِّز الإنسان عن الحيوان إنما هو كونه عاقلا على نحو يجعل فعله يتفق مع الفضيلة. وما دامت هناكـ فضائل عديدة، فإن فعل الإنسان لا يكون كاملا حتى يتفق مع أكمل فضيلة بحيث تتم الحياة وتكتمل في بلوغها أقصى غاية التي هي "السعادة".
ومن جهة أخرى، يؤكد مسكويه أن معظم الفلاسفة يُجْمِعُون على أن "السعادة" ترتبط بتحقيق الفضيلة على مستوى قُوى النفس، وهي فضائل أربع: الحكمة للقوة العقلية، العِفَّة للقوة الشهوية، العدالة للقوة العملية، والشجاعة للقوة الغضبية، بحيث لا يُحتاج بعدها إلى أي فضيلة من داخل البدن أو من خارجه، بل إن الإنسان إذا حَصَّل هذه الفضائل، فإنه لا يَضُرُّه أي نقص في بدنه أو في حاله سواء كان مرضا أو فقرا. لكن هناكـ بعض الفلاسفة (مثل الرواقيين وبعض الطبيعيين) الذين يجعلون البدن مُشاركا في تحصيل السعادة، حيث إن النفس لا تكتمل سعادتها إلا إذا شملت البدن وما يتعلق به. غير أن المُحقِّقِين من الفلاسفة يُؤكدون أن السعادة شيء ثابت غير زائل، وأنها أشرف الأمور وأكرمها، مما يجعلها مرتبطة بالنفس (العقل والفضيلة) ومنفصلة عن الحظ والبخت.
- تركيب واستنتاج
تختلف تصورات الناس حول "السعادة"، فمنهم من يرى أنها تتمثل في إشباع اللذات البدنية، ومنهم من يميل إلى اعتبارها مرتبطة بإرضاء المطالب النفسية والوجدانية، في حين يذهب آخرون إلى أنها قائمة على الاستجابة إلى اللذات العقلية الخالصة. من هنا، نجد أن كنط يؤكد أن "السعادة" مشكلةٌ بدون حل، لأنها ليست مفهوما من بناء العقل المجرد، وإنما هي مثالٌ من صنع الخيال مرتبط بالتجربة العملية. وعلى الرغم من ذلكـ، فإنه يمكن تحديدها بكونها « إرضاء كل رغباتنا مهما بلغ تنوعها واشتدادها وامتدادها».
2- البحث عن السعادة
- تحديد الإطار الإشكالي: هل "السعادة" ممكنة؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ هل هي مسألة حظ واتفاق أم أنها مرتبطة بالتدبير والاجتهاد؟ وهل يتم تحصيلها بشكل فردي أم بشكل جماعي؟ وإلى أي حدٍّ يمكن أن تتحقق سعادة البعض في غياب سعادة الآخرين؟
- مفاصل المعالجة
يرى أرسطو أن كون "السعادة" متعلقة بالكمال والفضيلة القُصوى يجعلها لا تُنال في يوم واحد أو في زمن قصير، تماما كما أن الخُطَّاف الوحيد لا يُنبِئُ عن قُدُوم فصل الربيع. ومن هنا فإن السعادة بحثٌ عن بلوغ الكمال بتحقيق كل الفضائل الممكنة، مما يجعلها تستغرق حياة الإنسان بكاملها.
غير أن سينيكا (65 ق.م-04 م [Sénéque]) يُلاحِظ أنه إذا كان كل الناس يبحثون عن "السعادة"، فإن الأمور مختلطة بخصوص كيفية السعي إليها. لذا لا بد من مُرشِد ومُعلِّم يُحدِّد كيفية السلوكـ إلى السعادة. إذ بدونه يستسلم المرء لاختلاط الأصوات واضطراب الآراء، مما يُؤدي إلى شدة التيه والضلال. فلا شيء أهم من عدم السلوكـ باتباع القطيع مُسايرةً لما يفعله معظمُ الناس، بل لا شيء أكثر تعاسة من الحياة بالتقليد والمُحاكاة. من هنا يجب العمل على الاستقلال عن عامة الناس باتباع العقل وحده.
ويذهب أبيقور ([Epicure]) إلى أن اللذة تُمثِّل مبدأ الحياة السعيدة وغايتها، إنها الخير الأول والطبيعي الذي يُمكِّننا من إيجاد مبدإ أي اختيار أو رفض، ومن ثم الحكم على ما هو خير. لكن يجب ألا نختار أي لذة كيفما اتفق، بل لا بد من عدم الالتفات إلى اللذات التي يترتب عنها ألم أكبر أو غَـمٌّ، وبالتالي فإننا نُفضِّل كثيرا من الآلام التي يترتب عليها الإحساس باللذة بعد عذاب طويل. إن اللذة التي هي أساس السعادة ليست هي نفس اللذة عند عامة الناس الذين يطلبون إشباع شهواتهم ورغباتهم بكل الطرق، وإنما هي اللذة التي تجعل الجسد لا يتألم وتُمَكِّن من تجنب القلق والاضطراب على نحو يُؤدِّي إلى سكينة النفس وطمأنينتها (أتراكسيا ataraxia,). لذا فإن السعادة لا تتحقق إلا بناء على التفكير العقلي الذي يبحث عن دواعي أي اختيار أو رفض والذي يَنْبِذ الآراء التي تتسبب في الاضطراب والانزعاج على الدوام.
وبخلاف ذلكـ يذهب أرثور شوﭙـنهاور (1788-1860 [Arthur Schopenhauer]) إلى أن الواقع يُثبِت أن اللذة والإشباع لا نستطيع أن نعرفهما بطريق مباشر، إنهما سرعان ما ينقضيان ويتفلتان، مما يجعل السعادة سلبية ترتبط بالعذاب والألم والحرمان، حيث إن كل إشباع أو استمتاع ليس دائما، بل إنه ليس سوى انقطاع للألم والحرمان. ومن هنا فإن السعادة تقوم في خوض تجربة الألم المأساوي المرتبط بالحياة في هذا العالم باعتباره حقيقة كل نشاط إنساني (خصوصا في الفن والشعر).
- تركيب واستنتاج
يختلف الناس كثيرا في الكيفية التي يبحثون بها عن السعادة. لذا نجد ألَان (1868-1951 [Alain]) يرى أن "السعادة" لا يمكن الاستدلال على وجودها ولا توقعُها، بل هي شيء يحصل في الآن. وحينما يبدو أنها ستتحقق في المستقبل، يتبين أننا نَملِكها سلفا. لذا، فإن الأمل في السعادة هو السعادة نفسها. فالسعادة، كما يقول الشعراء، لا تتجلى إلا عندما تكون بعيدة في المستقبل، وبمجرد ما نحصل عليها لا تعود شيئا جميلا. من المستحيل، إذن، أن نقتفي آثار السعادة، اللهم إلا على مستوى الكلمات، بل إنها تبدو كنوع من الجزاء الذي يُقَدَّم إلى أولئكـ الذين لم يبحثوا عنها قط.
3- السعادة والواجب
- تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة السعادة بالواجب؟ هل السعادة واجب فردي أم جماعي؟ وهل هي واجب عملي وأخلاقي أم أنها واجب نظري مجرد؟
- مفاصل المعالجة
يرى إﭙـكتيت (125 ق.م-50 ق.م [Epictète]) أن الأشياء التي نتحكم فيها وتتعلق بقدرتنا هي آراؤنا وحركاتنا ورغباتنا. وما يَجْلُب للناس الاضطراب والقلق ليس هو الأشياء في حد ذاتها، بل إنه آراؤهم عنها. فمثلا ليس الموت في ذاته شرا أو شيئا مُؤلما، وإنما الأمر في تصورنا عن الموت. لذا، فحينما نكون قَلِقين ومُضطربين، يجب علينا ألَّا نَتَّهِم أحدا غير أنفسنا، أي ينبغي أن نُراجع آراءنا، فهي مَكْمَن دائنا. وهكذا يؤكد إﭙـكتيت: «لا تطلب أبدا أن تَحْدُث الأشياء كما ترغب فيها، بل لِتَرْغَبْ في الأشياء كما تَحدُث فعلا، فبهذا ستكون سعيدا دائما.»
ويذهب أصحاب الموقف الصوفي إلى أن "السعادة" تتمثل في القيام بـ"الواجب"، حيث إن طالب السعادة لا طريق أفضل أمامه سوى أن يسلكـ طريق الفضيلة الذي يُؤدي إلى تخلية النفس من الرذائل بواسطة الدخول في تجربة روحية عميقة تقوم على كثرة العبادات والمُجاهدات التي يتمكن بها السالكـ من الترقي في مراتب الكمال إلى أن تتحلى نفسه بصفات الأخلاق الحميدة، مما يجعله يَحْصُل على نوع من الرضى الذي لا يصحبه حُزن ولا ألم ولا غَمٌّ، بل هو السعادة بعينها.
وعلى مستوى آخر، يرى إيمانويل كنط (Kant) أن السعادة ليست شيئا آخر سوى القيام بالواجب كما يتمثل في الإرادة الخَيِّرة التي تعمل بمقتضى قانون أخلاقي كُلِّي يجعل الإنسان يسلكـ في تصرفاته وفق ما يُوجبه الالتزام بالفضيلة. ومن هنا فإن مجرد كون الإنسان جديرا بالسعادة كذات أخلاقية يُعَدُّ شيئا نافعا في ذاته، حتى لو لم يشتركـ بالفعل في السعادة، لأن التوجه الخالص إلى القيام بالواجب يُعتَبر، في صدوره عن الإرادة الخيرة، خيرا محضا لا قِوَام للسعادة بدونه.
- تركيب واستنتاج
على الرغم من أن معظم الناس يفكرون في "السعادة" ويرغبون فيها، فإنه يُنظَر إليها عموما بأنها ليست موضوعا للطلب، فهي ضربةُ حظٍّ تُصيب فجأة ودون سابق إنذار، وقد تُصيب من لم يفكر أو يرغب فيها قط. غير أن كون "السعادة" ترتبط بما هو إيجابي، سواء كان شعورا بالرضى أو حسن حال عامٍّ، يجعلها ترتبط بـ"الواجب". فمن الواجب على الإنسان أن يسعى نحو "السعادة" بما هي نوع من الخير أو الفضيلة، وذلك إما بالعمل على تفادي ما يتسبب في الشقاء (خصوصا من التصورات السلبية والأخلاق المذمومة) وإما باعتبار القيام بالواجب، من حيث هو خير محض، يُعبِّر عن حقيقة "السعادة".
- خلاصة عامة للمفهوم
تُعَدُّ "السعادةُ" إشكالا وجوديا وفلسفيا ليس فقط من جهة كونها تختلف حسب تصورات الناس (إشباعٌ للذات البدنية أم إرضاء للمطالب النفسية والوجدانية أم استجابة إلى اللذات العقلية الخالصة)، وإنما أيضا باختلاف كيفيات البحث عنها واعتقاد إمكان حصولها أو استبعادها بالمرة كواقع و، بالتالي، الاكتفاء بجعلها أملا مرتبطا بالخيال وبالمستقبل. وعموما، فإن "السعادة"، حتى بصفتها مشكلةً بدون حل على المستويين النظري والعملي، تبقى مرتبطة بالخير والفضيلة، الأمر الذي يجعلها في صلة بـ"الواجب"، حيث إن الاهتمام بها والسعي إليها هو الذي يجدر بالإنسان ككائن أخلاقي. غير أن كون الفاعلية الإنسانية تتحدد أساسا كفاعلية اجتماعية وتاريخية يقتضي النظر إلى "السعادة" في تعلقها بالتدبير العمومي والمدني للشأن العام، ومن ثم فإن تصورها والبحث عنها لا ينفصلان عن إمكانات التنظيم الاجتماعي والتدبير السياسي، وهي الإمكانات التي يبدو أنها تُمثِّل الطريق الفعلي الذي من دونه لا يُمكن أن تتم مقاربة "السعادة" لا نظريا ولا عمليا في الواقع الإنساني بالشروط التي تحكمه.
مجزوءة IV: الأخلاق
3- الحرية
المفهوم الثالث: الحرية
- تقديم مفهوم الحرية
يُعتبَر الإنسان ذاتا واعية وفاعلة تتمتع بالإرادة والقدرة على الاختيار. إن قدرة الإنسان على الفعل هي التي تجعل إرادته حرة ومستقلة. من هنا تُطرح مشكلة "الحرية" في المجال الإنساني، ليس فقط كخاصية للإرادة بما هي قدرة على الاختيار من بين ممكنات متعددة، وإنما أيضا كشرط للفاعلية البشرية بشكل عام، حيث إن الإنسان يتحدد في تميزه عن الكائنات الأخرى بأنه ذات أخلاقية ومسؤولة، مما يقتضي أن يكون بالأساس ذاتا حرة ومستقلة عن كل الشروط والإكراهات التي يُمكن أن تَحُدَّ من إرادته فتجعله خاضعا أو تابعا. لكن التفكير في مسألة "الحرية" يقود إلى تَبَيُّن أن الأمر يتعلق بموضوع إشكالي من حيث إن الإنسان واقع بالضرورة تحت عدة إكراهات طبيعية ونفسية واجتماعية وتاريخية. من هنا يأتي طرح مفهوم "الحرية" بما هي "إرادة" و"اختيار" و"تلقائية" في مقابل "الحتمية" و"الضرورة" و"التبعية".
- الوضعية-المشكلة
عموما يُنظَر إلى الإنسان كذات فاعلة وحرة بحيث يُعَدُّ مسؤولا عن أفعاله أخلاقيا وقانونيا. لكن الإنسان في الواقع لا يصير فاعلا إلا بعد مسار طويل من التكوُّن الفردي والنوعي ضمن عدد من الشروط التي تجعل فاعليته مُمكنةً. فكيف تتحدد "الحرية" بالنسبة إلى الإنسان؟ هل هي قدرةٌ على الفعل خارج كل إكراه وبعيدا عن كل ضرورة؟ هل الإنسان ذات حرة تأتي أفعالها بكل تلقائية وبقدرة كاملة على الاختيار أم أن الشروط الطبيعية والاجتماعية المُحدِّدة لِتكوُّن ووجود الإنسان تجعله فاعلية مشروطة ومحتومة؟ ما علاقة الحرية بالضرورة والحتمية؟ وكيف تتحدد "الإرادة"؟ هل هي قدرة مطلقة على الاختيار والفعل أم أنها إعادة إنتاج للظروف والحتميات؟ ما علاقة الحرية بالمجتمع والقانون؟ هل القانون تنظيم للفعل الجماعي على نحو يُؤدي إلى تحقيق عملي للحرية أم أنه تقييد وتقليص لفاعلية الإنسان؟
1- الحرية والحتمية
- تحديد الإطار الإشكالي: هل تتحدد "الحرية" كـ"عفوية" و"تلقائية" تطبع الفعل الإنساني في تعارضه مع حركة الأشياء والكائنات الطبيعية التي تُعَدُّ خاضعة لنوع من "الضرورة" و"الحتمية" أم أنها تتحدد كوعي بـ"الحتمية" على أساسه يُمكن تحققُ الفعل الإنساني في توافقه مع الشروط الضرورية التي تحكمه وتُحدِّدُه؟
- مفاصل المعالجة
يرى إسـﭙـينوزا (1632-1677 [Spinoza]) أن الناس يتوهمون أنهم أحرار لأنهم يُدركون أفعالهم ورغباتهم في صُدورها عن ذواتهم. لكنهم في الواقع لا يَدَّعُون "الحرية" إلا في المدى الذين يجهلون الأسباب التي تتحكم في أفعالهم ورغباتهم. فالإنسان يُوجَد ضمن نظام الطبيعة الذي هو تَجَلٍّ للإرادة والقدرة الإلاهيتين في إحاطتهما المطلقة بالعالم، حيث إن كل شيء يُوجَد ويتصرف بمقتضى ضرورة طبيعية. ومن هنا، فإن الإنسان ما دام خاضعا لرغباته وشهواته يُعَدُّ فاقدا لكل حرية، بل إنه يكون واقعا تحت سلطان حتميةٍ حرة ومطلقة هي الحتمية الطبيعية. وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يتحرر إلا في المدى الذي يَتَّبِعُ ما يُمليه عليه "العقل"، فـ«الإنسان الذي يقوده العقل يكون أكثر حرية في الدولة حيث يعيش في ظل القانون العام، منه لو بقي منعزلا لا يخضع إلا لهواه ».
ويذهب إيمانويل كانط (Kant) إلى أن "الحرية" تُمثِّل مسلمةً لإمكان الوجود الإنساني كعقل أخلاقي وعملي. فالإنسان ذاتٌ حرة ومستقلة لها القدرة المطلقة على التشريع لنفسها على نحو يجعلها لا تخضع إلا لنداء الواجب في استجابته لما تقتضيه الفضيلة. وعلى هذا الأساس، فإن الإنسان يتميز عن الكائنات الطبيعية الخاضعة لقوانين تتسم بالضرورة والحتمية.
غير أن كارل ﭙـوﭙـر (1902-1994 [Karl Popper]) يؤكد أن الحرية خاضعة لثلاثة محددات أساسية: إكراهات العالم الطبيعي ؛ مُحدِّدات عالم الوجدان والأحاسيس ؛ قوانين الفكر والعقل. فـ«حريتنا، وخصوصا حرية الإبداع، خاضعة لتلكـ المُحدِّدات. لكن المُبدِع مثله مثل المستكشف في جبال الهملايا، إنه حر في أن يختار طريقا من بين عدة طرق ممكنة». ذلكـ بأن العالم، وضمنه الإنسان، لا يتحدد بشكل نهائي وحتمي، وإنما هو لانهائية من المُمكِنات التي تتحقق شيئا فشيئا. فالعالم حتمي في ظاهره، لكنه في العمق قائم على نوع من اللاحتمية التي تجعل الحرية الإنسانية ممكنةً وقابلة للتحقيق على أساس المعرفة العلمية نفسها.
ومن ثم، فإن عبد اللـه العروي (1933-؟) يرى أن "الحرية" مرتبطةٌ بالإمكان المادي، أي القدرة على القيام بما تتعلق به الرغبة، مما يجعلها تتحدد من الناحية القانونية بأنها مجموعُ الحقوق المعترف بها للفرد ومجموعُ القدرات التي يتمتع بها. فالحقوق تتحدد من خلال ما تسمح به الأعراف والقوانين الاجتماعية، وترتبط القدرات بالوسائل المتاحة في المجتمع والعصر. ومن هنا، فإن الحرية، بما هي جملةٌ من الحقوق والقدرات، ترتبط بالتطور الاجتماعي وبالتقدم العلمي والتقني. وبالتالي، ليست "الحرية" حالة قارَّةً ودائمة، وإنما هي عمليةُ تحريرٍ مُستمرةٌ محددةٌ اجتماعيا وتاريخيا.
- تركيب واستنتاج
يُنْظَر إلى "الحرية"، في الغالب، كانطلاق يتجاوز كل الحدود أو كاستقلال وانفكاكـ عن كل القيود، حيث تبدو الإرادةُ قدرةً مطلقةً على الاختيار أو على الفعل بتلقائية تامة. غير أن هذا التصور يصطدم بعدد من الإكراهات الطبيعية والاجتماعية التي يخضع لها الإنسان في فعله وسلوكه، مما يجعل "الحرية" تتعين كإمكان للفعل ضمن مجموع الشروط الضرورية المُحَدِّدة للوجود الإنساني، وهو إمكان قابل للتوسع أو التقلص حسب ما يتراكم من معارف ووسائل في كل مجتمع وعصر.
2- حرية الإرادة
- تحديد الإطار الإشكالي: كيف تتحدد "الحرية" في علاقتها بـ"الإرادة"؟ هل أفعالنا نِتاجٌ لإرادتنا الحرة والمستقلة أم أننا خاضعون في أفعالنا لنوع من الإلزام أو الإكراه الذي يرتبط بشروط محددة؟
- مفاصل المعالجة
يرى ديكارت (1596-1650 [Descartes]) أن "الإرادة" هي حريةُ الاختيار التي يَخْبُرها كل إنسان في نفسه فيُدرِكـ أنها واسعةٌ وقويةٌ، مما يجعله يتأكد أنه مخلوق على صورةٍ تُوافِق المشيئة الإلاهية. وإذا كانت الإرادة الإلاهية أعظم وأشمل بحكم أن علم اللـه وقدرته لا يَحُدُّهما شيء، فإن كون إرادتي الخاصة على صورة الإرادة الإلاهية يجعلها كبيرة أيضا. وتتمثل الإرادة في القدرة على فعل الشيء أو تركه، أي القدرة على التصرف بناء على الاختيار خارج كل ضغط. وترتبط حرية الإرادة هذه بالمعرفة، حيث إن اللـه بَثَّ في النفوس الميل إلى الأشياء وزَوَّدَها بالقدرة على التفكير التي هي قدرةٌ على التدبير، حيث إن الفضل الإلاهي والمعرفة الطبيعية لا ينتقصان من حريتي شيئا، بل إنهما يُوَسِّعَانها ويُقَوِّيَانها.
لكن جون-ﭙـول سارتر (1905-1980 [Jean-Paul Sartre]) يذهب إلى أن ديكارت في تصوره للإرادة المطلقة كإرادة إلاهية كان يبني إرادة الإنسان في حقيقتها الكاملة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجودُه ماهيتَه، فلا شيء يُحدِّدُ ابتداءً حقيقةَ الإنسان غير الحرية الأصلية التي هي أساس الإرادة كقدرة على الاختيار. ومن هنا فإن الإنسان يُسْقِط نفسه دائما إلى الأمام كأفق مُقبِل أو كمشروع مستقبلي لا يُحدِّدُه شيء في الماضي أو في الحاضر. وهكذا فإن الإنسان هو الذي يختار ما يفعل بنفسه، وفي اختياره هذا لا يختار فقط نفسه وإنما يختار الإنسانية جمعاء، مما يجعله مسؤولا عما يفعل بنفسه ومسؤولا بالتالي عن الإنسانية بكاملها، من حيث إن اختياره لَازِمٌ عن حقيقته الإنسانية في قيامها على الحرية كرغبة تلقائية وعفوية تتجلى في الاختيار كلَانهائيةٍ من المُمكنات الموضوعة بين يدي الإرادة.
- تركيب واستنتاج
تتحدد الحرية في علاقتها بالإرادة من حيث إن القدرة على الاختيار هي التجلي الذي نُدركـ من خلاله الإرادة، ومن ثم يُعَدُّ الإنسان كإرادة حرة لها القدرة على الاختيار. غير أن اعتبار الحرية قائمةً على حرية الاختيار كإرادة يجعلنا نُغفِل أن التعلق بالحرية كإرادة واختيار مرتبط بشروط تسمح لقيام نوع من المساواة بين الناس يجعلهم مواطنين أحرارا. ولعل هذا ما جعل ألكسيس دو توكـﭭـيل (1711-1776 [Alexis De Tocqueville]) يُؤكِّد أن المساواة في الشروط هي التي تتولد عنها جملة من الآثار السياسية من بينها حب الاستقلال والإحساس بالإرادة كاختيار حر للأفعال.
3- الحرية والقانون
- تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة الحرية بالقانون؟ هل تتعارض الحرية مع القانون الذي هو تقييد لها أم أن الحرية ليست ممكنةً إلا على أساس التنظيم القانوني للمجتمع بما مجال للتفاعل والصراع؟
- مفاصل المعالجة
يذهب توماس هوبز ([Thomas Hobbes]) إلى أن كل فرد يتمتع، خارج المجتمع، بحرية كاملة يُخَوِّلُها له "الحق الطبيعي". لكن مثل هذه الحرية لا تُفيدُ في شيء، لأنها بقدر ما تُعطِي للمرء الحق المطلق في أن يفعل كل ما يرغب فيه، فإنها تُعطِي أيضا للآخرين الحق نفسه لإيذائه كما يُريدون. من هنا يجب التخلص من ذلكـ "الحق الطبيعي" الذي بتهديده للحياة يُهدِّد الحرية ذاتها، وذلكـ عن طريق تفويضه إلى شخص واحد تصير له السلطة المطلقة فيتمكن الناس من حفظ السلم والأمن في كَنَف الدولة بحيث لا يتمتع كل شخص بالحرية إلا بالقدر الذي يكفيه. وهكذا فإن قيام الدولة كنظام سياسي يجعل العقل يُمارس سلطته من خلال القانون فيَسْتَتِبُّ السلمُ ويصير تعاون المواطنين ممكنا كأشخاص أحرار.
وفي نفس السياق، يؤكد مونتسكيو (1689-1755 [Montesquieu]) أن الحرية لا تتمثل في أن يفعل المرء كل ما يرغب فيه، وإنما الحرية في إطار الدولة هي القدرة على فعل ما يجب أو عدم الإكراه على فعل ما لا يُرَاد. إنها الحق في فعل كل ما تُبِيحه القوانين، بحيث لو فعل أحدُ الناس ما تُحَرِّمه القوانين فإنه يفقد حريته، لأن الآخرين يمكنهم أن يقوموا بمثل ما فعل. لذا فإن الحرية تحتاج إلى حدود بواسطة القوانين، مما يجعلها لا تتحقق إلا في إطار الدولة التي تكون معتدلة. وهذا ما يؤكده جون-جاكـ روسو (1717-1778[Jean-Jacques Rousseau]) حيث يقول: «لا وجود قطعًا لحرية من دون قوانين، ولا يوجد شخص فوق القوانين. إذ حتى في حالة الطبيعة لا يكون الإنسان حرا إلا عندما يخضع للقانون الطبيعي الذي يُسَيِّرُ كل شيء. وهكذا، فالشعب الحُرُّ يكون خاضعا، لكنه لا يكون خادما لغيره. يكون له رؤساء، لكن لا يكون له أسياد. إنه يخضع للقوانين، ولا يخضع إلا لها وحدها، وبفضلها لا يخضع للبشر.».
ومن ثم، نجد أن بنيامين كونستان (1767-1830 [Benjamin Constant]) يرى أن الحرية، بالنسبة للمُحدَثِين، هي الحق في ألَّا يخضع الفرد إلا للقوانين، حق يجعله لا يتعرض للاعتقال أو التوقيف أو الإعدام أو سُوء المعاملة بناء على إرادة فرد أو مجموعة من الأفراد. والحرية بهذا المعنى هي مجموع الحقوق التي أصبح يتمتع بها المُواطنون في إطار الدولة الحديثة باعتبارها الحريات العامة والأساسية التي تميز الإنسان: حق التعبير، حق الشغل، حق الملكية، حق التنقل، حق التجمع، حق الانتخاب والترشح. ومن الواضح، إذن، أن المفهوم الحديث للحرية قد صار أكثر تحديدا واتساعا وأنه يتمثل بالأساس في التنظيم القانوني للحياة العمومية.
وبهذا الصدد، ترى حنا أرندت (1906-1975 [Hannah Arendt]) أن الفلسفة الكلاسيكية كانت تنظر إلى الحرية كقضية ميتافيزيقية تتعلق بإرادة الإنسان بصفتها قائمة على الفكر بما هو جوهر مُحدِّدٌ للذات، وهذا لا يُساعد على تحديدها وتوضيحها، بل ينقلها من مجالها الأصلي الذي هو التجربة الإنسانية إلى مجال داخلي قائم على الاستبطان والتأمل المجرد. لهذا، فإن الحرية تتعلق أساسا بالتجربة الإنسانية بما هي تجربة سياسية في إطار المجتمع المدني الذي هو بمثابة تنظيم قانوني للحياة الاجتماعية يُؤدي إلى التحقق الفعلي للحرية من خلال بروز الأفراد كمواطنين أحرار ومُتساوِين. وهكذا فإن "الحرية" مرتبطةٌ بالفعل الإنساني كفعل سياسي يتطلب تنظيم مجال العلاقات الاجتماعية على نحو مَدَني يضمن المساواة بين أعضاء المجتمع على أساس القانون الذي يجعل الحرية ممكنة كتجربة إنسانية واقعية.
- تركيب واستنتاج
يَتِمُّ تصورُ "الحرية" باعتبارها قدرةَ الإنسان على فعل كل ما تتعلق به رغبته. لكن تصور "الحرية" بهذا الشكل يجعلها فعلا فوضويا كفيلا بتجاوز كل الحدود، مما يُمكنه أن يؤدي إلى فتح نزاع الإرادات على خطر "حرب الكل ضد الكل" كنتيجة طبيعية للحق الطبيعي كحرية مطلقة، وهو ما يربط إمكان الوجود الإنساني بالقوة الخالصة خارج كل قيد. لذا عَمِلَ كثيرٌ من الفلاسفة على إثبات ضرورة تأسيس المجتمع المدني تأسيسا عقليا بتأكيد أن الوجود الجماعي قائم على نوع من التعاقد الذي يُوجِب تفويض "الحق الطبيعي" للحاكم الذي يصير مُلزَمًا بحفظ السلم والأمن، وأيضا بضمان إمكان استمرار الناس أحرارا كما يُخَوِّلُ لهم حقهم الطبيعي. وهكذا فإن "الحرية" كتجربة إنسانية تبدو غير ممكنة إلا في إطار مجتمع مدني قائم على نوع من التنظيم القانوني للحياة السياسية، تنظيم يسمح بقيام الأشخاص كذوات فردية حرة على نحو يُساوِي بين أعضاء المجتمع بصفتهم مُواطنين لهم نفس الكرامة الإنسانية ويَحِقُّ لكل منهم أن يتمتع بكل حقوقه بنفس القدر والكيفية التي يتمتع بها الآخرون المشتركون لا فقط في "الإنسانية"، وإنما أيضا في "الحياة الحرة" ضمن مجال المجتمع المدني كمجال لا يخضع فيه المواطنون إلا للقانون، وله هو وحده، لأن هذا الخضوع هو الذي يُحقِّقُ حريتهم على نحو موضوعي وواقعي.
خلاصة عامة للمفهوم
يُنظَر إلى الإنسان كذات واعية وقادرة على الاختيار المطلق، الأمر الذي يجعل "الحرية" ليس فقط إحدى خصائص الوجود الإنساني، بل أهمَّها من حيث إنها تُمثِّل إمكان هذا الوجود في تميزه كقدرة على الفعل. لكن تصور "الحرية" كقدرة مطلقة على الاختيار والإنجاز يُغْفِل كل الشروط المُحدِّدة للوجود الإنساني، الأمر الذي يُوجب النظر إلى "الحرية" في علاقتها بالضرورة الطبيعية والاجتماعية المُلَازِمة لوجود الإنسان، وهي الضرورة التي لا إمكان لقيام أي فاعلية حقيقية إلا من خلال معرفتها على نحو منهجي وموضوعي بشكل يُمَثِّل السبيل الواقعي إلى بُروز العاقلية الإنسانية كحركة اجتماعية وتاريخية تسعى إلى فهم إمكانات الفعل الإنساني بالنسبة إلى شروطه و، بالتالي، توسيع هامش الحرية الإنسانية.
مجزوءة IV: الأخلاق
1- الواجب
تقديم المجزوءة الرابعة
كون الإنسان ذاتا فاعلة لا يجعله يتميز عن غيره من الكائنات إلا بالقدر الذي يكون فعله قائما على القصدية والتوجيه، أي في المدى الذي تُحدِّده مقاصد وغايات يتوجه بحسبها في قيامه بأفعاله. وهذا بالضبط ما يجعله ذاتا أخلاقية. إذ تتناول "الأخلاق" الفعل الإنساني من حيث إنه يقوم على مُحدِّدات مَقصِدية أو غائية بخلاف الفعل الغريزي أو الآلي الذي يصدر عن نوع من الضرورة الطبيعية أو الصناعية. ومن هنا، تُطرح مسألة الإلزام والإكراه المُحرِّكـ للفعل الإنساني (أي "الواجب الأخلاقي") في علاقته بـ"الإرادة" و"الاختيار" (أي "الحرية") وغايات الحياة التي قد تكون نوعا من أنواع "الخير" أو "الفضيلة" أو "الشعور بالرضى" (أي "السعادة").
المفهوم الأول: الواجب
- تقديم مفهوم الواجب
يتحدد الفعل الإنساني بأنه فعل أخلاقي قاصد ومُسَدَّد، من حيث إنه مبني على نوع من "الوعي" الذي يجعل الإنسان يأتي أفعاله ليس من منطلق الدافع الغريزي أو الرغبة العفوية، وإنما بناء على التمييز بين الوسائل والغايات بالنسبة إلى نوع من المقاصد الصالحة التي تُوجِب عليه أن يسلكـ بكيفية معينة دون غيرها. من هنا يُطرح موضوع "الواجب" كمجال يتعلق بالفعل الإنساني في تميزه عن الفعل الحيواني والآلي وفي ارتباطه بمختلف حاجات الحياة الإنسانية ؛ وذلكـ في المدى الذي يُعَدُّ "الواجب" قائما على نوع من الإكراه أو الإلزام الذي ينبغي تحديد طبيعته وأسبابه وآثاره.
- الوضعية-المشكلة
كثيرا ما يقوم الإنسان بأفعاله من منطلق أنه لا يفعل شيئا آخر سوى أنه يقوم بما يجب عليه فعله. وهذا ما يُسمى "الواجب" (le devoir, Duty) الذي قد يكون أخلاقيا أو قانونيا أو وطنيا أو مِهْنيا. فكيف يتحدد "الواجب" في طبيعته الخاصة التي تجعله يقود الشخص إلى إنجاز أفعاله؟ ما علاقته بـ"الإرادة" و"الوعي"؟ هل الإكراه الموجود في الواجب قائم على التزام داخلي/ذاتي أم أنه يرجع إلى سلطة خارجية هي التي تُلزِم الإرادة بالفعل؟ كيف يتحدد الوعي الأخلاقي في علاقته بـ"الضمير" و"المجتمع"؟ هل يدل "الواجب" على نداء الضمير الإنساني في تميزه وسُمُوِّه أم أنه ليس سوى انعكاس محدد وخاص لضرورة الوجود الاجتماعي بكل شروطه وإكراهاته؟
1- الواجب والإكراه
- تحديد الإطار الإشكالي: هل يصدر "الواجب" عن إرادة فاعلة وحرة أم أنه فِعلٌ تحكمه الضرورة والإكراه؟
- مفاصل المعالجة:
يرى دافيد هيوم (1711-1776 [David Hume]) أن الواجبات الأخلاقية تنقسم إلى نوعين: نوع أول يُمثِّل كل الواجبات التي تدفع إليها الغريزة الطبيعية أو الميل المباشر، وهو نوع لا يبدو فيه أي شعور بالإلزام أو أي اعتبار لمنفعة عامة أو خاصة (مثلا: حب الأطفال، شكر المُحسنين، العطف على المُعوِزين) ؛ ونوع ثانٍ يصدر فيه الواجب عن إلزام يرتبط بضرورات المجتمع البشري، حيث إن التخلي عنه تترتب عنه استحالة استمرار الحياة الاجتماعية للإنسان (مثلا: العدالة كاحترام لملكية الآخرين، والإخلاص كاحترام للوعود). وهكذا، فالإكراه الموجود في "الواجب" يرجع إما إلى ضرورة طبيعية (غريزية) وإما إلى ضرورة اجتماعية (عقلية).
لكن كانط (1724-1804 [Kant]) يؤكد أن أساس "الواجب" يتمثل في "الإرادة الخيرة" (أو "الإرادة الطيبة") التي تتميز بنوع من "الاستقلال الذاتي" (l’autonomie) الذي يجعلها قدرة على التشريع لنفسها بعيدا عن كل الإكراهات الخارجية. فالإنسان ذات واعية وعاقلة على نحو يُمَكِّنه من أن يأتي أفعاله على أساس "الإرادة"، كإرادة مستقلة وحرة لها القدرة على وضع وإصدار الأوامر التي تدفع إلى الفعل. وهذا ما يُسميه كانط "الأمر المطلق" (l’impératif catégorique) باعتباره أمرا تُلْقِي به الذات إلى نفسها كأمر غير مقيد وغير مشروط بأي رغبة أو غرض، حيث إن الذات تتلقاه من نفسها فتنهض للقيام بالواجب بدافع الفضيلة في تجردها وتنزهها عن كل الغايات، اللهم إلا الفضيلة كغاية في ذاتها.
ويذهب إميل دوركايم (1858-1917 [Emile Durkheim]) إلى أن "الواجب الأخلاقي" يتسم بصفتين أساسيتين: فهو ذو طابع إلزامي (obligatoire)، كما أنه يُعتبر في الوقت نفسه مرغوبا فيه (désirable) كشيء خَيِّر أو طَيِّب. فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بعمل ما فقط لأنه مطلوب منه فعلُه أو مأمور به، بل إنه «من المستحيل نفسيا أن نسعى نحو تحقيق هدف نجد في نفوسنا فُتُورًا تجاهه، بحيث لا يبدو لنا خَيِّرا أو طَيِّبا، أو لا يُحركـ فينا أي إحساس». لذا فإن "الواجب الأخلاقي" ليس فقط شيئا مُلْزِما، وإنما هو أيضا شيء مرغوب فيه. وكلتا الصفتين ترجعان إلى كون "الواجب" يستند إلى المجتمع كسلطة أخلاقية تتعالى على إرادات الأفراد، حيث إن القيم الأخلاقية تُعَدُّ قيما حضارية وثقافية، وكل من الحضارة والثقافة يُشكِّل نظاما اجتماعيا وتاريخيا يتجاوز الإرادة الفردية. ومن حيث إن الأفراد يجدون أنفسهم قد خضعوا لـ"التنشئة الاجتماعية" (la socialisation)، كعملية تسهر على نقل القيم الحضارية والثقافية القائمة في المجتمع الذي يكونون أعضاء فيه، فإنهم يجدون أنفسهم وقد تلقوا داخلهم تلكـ القيم على شكل معايير أخلاقية تُحدِّد ما هو خير وما هو واجب، على نحو يجعلهم يقومون بـ"الواجب" بدافع من الإلزام الذي تمثله سلطة المجتمع وبدافع من "المرغوبية" التي تُميِّز القيم الأخلاقية كقيم تُكوِّن هوية الأفراد كأعضاء تَتِمُّ تربيتُهم ضمن ثقافة معينة. وهكذا، فإن دوركايم يرى أن الأمر الأخلاقي عند كنط في قطعيته وإطلاقيته ليس سوى مظهر من مظاهر الواقع الأخلاقي الذي يتصف في آن واحد بـ"الإلزامية" و"المرغوبية" بفعل كونه خاضعا للمجتمع كسلطة أخلاقية تفرض نفسها على ذوات الأفراد.
- تركيب واستنتاج
يبدو "الواجب" كشيء يفرض نفسه على الذات بما هو خير. وإذا كان هناكـ من يرى في إلزامية الواجب تعبيرا عن "الإرادة الخيرة" التي تُميِّز الإنسان كذات واعية وحرة، فإن هناكـ من يُؤكد أن "الواجب" مرتبط بضرورة طبيعية أو اجتماعية هي التي تجعله إلزاما أو إكراها، بل إنه يكون أيضا محط رغبة، لأنه يرتبط بالخير والفضيلة اللذين تنقاد إليهما النفس على نحو تلقائي وعادي، بدافع من عملية التربية التي تُرسِّخ قيم المجتمع والثقافة داخل الذوات الفردية.
2- الوعي الأخلاقي
- تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "الواجب" بـ"الوعي الأخلاقي"؟ هل يقوم "الواجب" على "الوعي الأخلاقي" كضمير أو حس ذاتي وداخلي أم أنه يقوم على مُحدِّدات خارجية وموضوعية متصلة بالواقع الاجتماعي؟
- مفاصل المعالجة
يرى مِسكويه (320-421 هـ) أن "الخُلُق" حَالٌ للنفس تدعوها إلى القيام بأفعالها من دون تأمل أو تفكر، مما يؤكد صلة الأخلاق بالممارسة العملية. والخُلُق، كحالة نفسية، نوعان: "طبع" أو "مزاج" يُعَدُّ ميلا أو نزوعا طبيعيا إلى الفعل ؛ و"عادة" تقوم على التأديب والتدريب حتى تصير مَلَكَة راسخة في النفس فتكون "طبيعة ثانية". ومن المؤكد أن الأخلاق ليست طبيعية بإطلاق وليست غير طبيعية (أو اجتماعية) بإطلاق. فالإنسان نفس ناطقة/عاقلة وقابلة للتأديب والتربية، مما يجعل أفعاله موضوعا للاكتمال والتهذيب من خلال السياسة والتربية. ومن هنا، يأتي تفاوت مراتب الناس في الأخلاق، ليس فقط بفعل اختلاف طِبَاعهم، وإنما أيضا بحسب اختلاف عاداتهم من جهة مدى خضوعهم للتأديب والتقويم الذي ينقلهم من حال الهمج المُهملين إلى حال أُناس تم ترويضهم حتى صاروا فضلاء وأخيارا.
وفي الفترة الحديثة، يذهب فرانز برونتانو (1838-1917 [Franz Brentano]) إلى أن الإنسان، بما هو كائن حي يعيش ضمن مجتمع، يتلقى التربية من خلال مرافقته للآخرين، على نحو يجعله يُواجِه دائما أوامر تَحُثُّه على القيام بأفعال معينة، مما يُؤدي إلى نشوء علاقة وثيقة بين نمط معين من الفعل وفكرة الالتزام كما تتجسد في "الواجب الأخلاقي". وهكذا فإن "الوعي الأخلاقي" ليس سوى تَمَثُّل أو استيعاب للقوة التي تتحكم في المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد والذي يتجاوزهم بما هم أفراد بحيث يكون قوة مُلْزِمة لهم على مستوى أفعالهم التي تصبح صادرة عن قواعد يُمليها عليهم "الوعي الأخلاقي" كسلطة تفرض نفسها بنفس القوة أو الضرورة التي تُميز الأشياء الطبيعية أو الاستنتاجات المنطقية.
ومن جهة أخرى، يؤكد سيغموند فرويد (1856-1938 [Sigmund Freud]) أن "الوعي الأخلاقي"، بما هو قوة دافعة أو سلطة آمرة وناهية، يُعتبر وظيفة من وظائف الجهاز النفسي للإنسان في ارتباطه وتفاعله، على نحو متوتر ومتناقض، مع الواقع الخارجي (الطبيعي والاجتماعي معا). فـ"الأنا الأعلى" هيئةٌ نفسيةٌ تُمَارس الرقابة على أفعال ومقاصد "الأنا"، من حيث إنه يمثل مجموع القيم والمعايير المتعلقة بثقافة معينة ضمن مجتمع معين، وذلكـ في المدى الذي تنتقل إلى الأفراد عبر التنشئة والتربية فيتمثلونها داخل أنفسهم على نحو يجعلها معايير أخلاقية (غير خاضعة للوعي في غالب الأحيان) تتحكم في سلوكهم وتُعَبِّر عن "ضمير أخلاقي" يتجلى في الوظيفة النفسية لـ"الأنا الأعلى" كهيئة مُكَوِّنة للبنية النفسية إلى جانب "الهو" و"الأنا".
ومن ثم، فإن هانز كيتشتاينر ([Heinz Kittsteiner]) يؤكد أن "الوعي الأخلاقي"، في ارتباطه بالواقع الاجتماعي، يُعَدُّ وعيا تاريخيا يتعلق بالطريقة التي يُؤَطِّر بها مجتمع ما أفراده تربويا، وهي طريقة خاضعة للإصلاح والتطوير. لذا فإن "الوعي الأخلاقي" له تاريخ يكشف عن تَكوُّنه وتطوره، خصوصا في العصر الحديث. فأخلاق الواجب، كما بناها كنط (أوامر قطعية ومطلقة)، لا يمكن فهمها إلا من خلال تاريخ الإصلاح الديني في نهاية عصر النهضة وقيام الطبقة البورجوازية بأوروبا، حيث تم الانتقال من تبرير الأفعال أمام السلطة الخارجية والمتعالية (الإلاهية أو الأبوية) إلى المسؤولية الشخصية عن الأفعال كمسؤولية تتحدد اجتماعيا وتاريخيا، مما يُؤكِّد أن "الوعي الأخلاقي" جزء لا يتجزأ من بنية وعي اجتماعي وتاريخي يتسم بالانفتاح والتطور، ومن ثم التغير والنسبية.
- تركيب واستنتاج
يُنْظَرُ إلى "الوعي الأخلاقي" كما لو كان قائما في صورة ضمير باطني وفردي يتحدد بصفة كونية، متعالية ومطلقة على نحو يجعل "الواجب الأخلاقي" يقوم على ما هو داخلي وذاتي. لكن كون الأفراد أعضاءً في مجتمع وضمن ثقافة معينة يقتضي أن يُعتبر "الوعي الأخلاقي" كنتاج مُحَدَّدٍ موضوعيا في تكوُّنه واشتغاله بالشروط الاجتماعية والتاريخية التي تتحكم في الفاعلية الإنسانية كفاعلية أخلاقية غير ممكنة إلا في إطار نظام اجتماعي وثقافي هو الذي يجعل للناس مصلحة ذاتية في السلوكـ الأخلاقي في صدوره عن الإحساس بـ"الواجب" كتعبير عن مجموع القيم السارية في وسط اجتماعي وثقافي معين.
3- الواجب والمجتمع
- تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "الواجب" بالمجتمع؟ هل "الواجب" قائم على الضمير الفردي في وحدته واستقلاله أم أنه مرتبط بالمجتمع في خضوعه للتعدد والتغير؟
- مفاصل المعالجة
يرى هنري برغسون (1859-1941 [Henri Bergson]) أن "الواجب" كسلطة إلزامية يرتبط بِتَعوُّد الاستماع للآباء والمعلمين الذين لا يصدرون في أوامرهم عن أنفسهم وإنما عن سلطة المجتمع التي ينوبون عنها والتي تُعطي لوضعيتهم قوة الإلزام. وأهمية المجتمع الأخلاقية شبيهةٌ بالجهاز العضوي الذي ترتبط خلاياه على نحو ضروري وتراتبي يُمَكِّن من استمرار الكائن الحي. فالمجتمع في قيامه على إرادات منتظمة بواسطة الواجب الأخلاقي تلعب فيه العادة دور الضرورة التي تخضع لها الكائنات الطبيعية، وذلكـ بشكل يجعل الحياة الاجتماعية تبدو كنسق من العادات الراسخة التي تستجيب بالضرورة لحاجات الجماعة، مما يجعل الأخلاق وثيقة الصلة بعادات الناس في مجتمعاتهم الخاصة.
وفي نفس السياق، يؤكد إنغلز (1820-1890 [Friedrich Engels]) أن ارتباط القيم الأخلاقية بالتطور الاقتصادي والاجتماعي، يؤدي إلى النظر إلى "الواجب الأخلاقي" ليس كقانون كلي وخالد يعلو على التاريخ والمجتمع، وإنما إلى اعتباره تجسيدا لنظام أخلاقي مرتبط بالصراع الطبقي في المجتمع وعبر التاريخ، حيث إن الأخلاق ليست سوى تبرير لمصالح الطبقة المسيطرة، كما أنها قد تكون أخلاق طبقة مضطهدة صاعدة تعلن ثورتها ضد الطبقة المهيمنة.
ومن جهة أخرى، يذهب "ماكس ﭭـيبر" (Max Weber) إلى أن كل فعل موجه أخلاقيا يقوم على مبدإ أساسي، يكون إما مبدأ اقتناع وإما مبدأ مسؤولية، وهما مبدآن مُتباينان ومتعارضان. ومن هنا فإن موقف من يتصرف وفق المبدإ الأول يكون خاضعا لـ"أخلاق الاقتناع" كأخلاق تقوم على التوكل والقَدَرِيّة وتأكيد أهمية الإخلاص، وتقود من ثم إلى ربط النتائج بظروف العالم المحيط أو بمشيئة اللـه. وأما موقف من يتصرف تبعا للمبدإ الآخر، فإنه يتميز بتحديد المسؤولية بناء على النقائص البشرية والاستعداد لتحمل النتائج بصورة شخصية وبالخضوع للمحاسبة العمومية في المجتمع. ورغم هذا، فإن قيام الأخلاق على هذين المبدأين لا يؤدي إلى نفي المسؤولية عن "أخلاق الاقتناع"، ولا إلى نفي الاقتناع عن "أخلاق المسؤولية"، وإنما إلى تأكيد الاختلاف في كيفية التصرف وتَحَمُّل المسؤولية عن نتائج الفعل في كل منهما.
وفي نفس الصدد، نجد أن "جون راولز" (1921-2002 [John Rawls]) يربط الواجب بالمجتمع من جهة أن هناكـ واجبا للتضامن بين الأجيال. إذ يبدو أن الأجيال اللاحقة تستفيد من عمل الأجيال السابقة دون أن تؤدي الثمن المناسب. ولهذا، فإنه إذا كان على الأجيال اللاحقة أن تستفيد من أعمال الأجيال السابقة، فإنها تصير مُلزَمة بواجب المساهمة في التوفير الذي يضمن نوعا من التراكم يُمَكِّن من حفظ حقوق الأجيال القادمة. وبالتالي فإن المجتمع مُطالَب بترسيخ مؤسسات عادلة تَكْفُل التمتع بالحريات الأساسية وتسمح بقيام المواطنين بواجبهم في التضامن مع الأجيال القادمة من خلال التوفير الذي يُتيحه نظامُ المجتمع كنظام للتعاون المُنصِف بين كل أعضائه.
- تركيب واستنتاج
إن "الواجب" في تَحددُّه كقوة دافعة إلى الفعل يُحيل إلى المجتمع كسلطة تتجاوز واقعيا وتاريخيا الإرادات الخاصة للأفراد. وفي إحالة الواجب إلى المجتمع، لا يتأكد فقط عُمق الارتباط القائم بينهما، بل يتأكد أيضا أن "الواجب" في مبدئه ومآله خاضع للتوجيه الذي يتحدد حسب الشروط المتعلقة بالمجتمع في فترة معينة. ولهذا فإن "الأخلاق" التي تُقَوِّم "الواجب" لها أساس اجتماعي وموضوعي، خصوصا من جهة الكيفية التي تتحقق بها عمليا في واقع الممارسة الفردية التي لا يكون لها معنى إلا في سياق التفاعل الجماعي كتبادل وتواصل خاضع لشروط الوجود الإنساني في تعددها ونسبيتها، الأمر الذي يفسر ما فيه من ضرورة.
مجزوءة III: السياسة
المفهوم الثالث: الحق والعدل
* تقديم مفهوم الحق والعدل
عرفت المجتمعات الإنسانية منذ القِدَم مشكلةَ توزيع الموارد والثروات التي تتميز طبيعيا بالندرة. فالواقع الإنساني موضوعٌ لنزاعٍ حَادٍّ يدور حول كيفية تقسيم ما يتم إنتاجه ومُراكمته من خيرات على مستوى مجتمع ما أو حتى على مستوى العالم كله، تقسيم يُمَكِّن من حفظ "النصيب الواجب" لكل طرف على نحو يسمح بالحديث عن نوع من "الحق" الذي ليس مجرد إقرار لواقع التفاوت على أساس القوة أو الامتياز، بل بالاستناد إلى قيم ومعايير تتجاوز ما هو اعتباطي وتفرض نفسها كمبادئ وأصول لإقامة "العدل" الذي يجعل كل طرف يحظى بما يستحق على الوجه الذي يليق بكرامة الإنسان بما هو كائن عاقل له القدرة على بلورة سيرورة للتحكم في فاعليته على نحو قاصد وناجع.
* الوضعية-المشكلة
يرتبط "الحق" و"العدل" بِنَسقِ القيم والمعايير الذي يضبط العلاقات التفاعلية في مجتمع ما خلال فترة محددة، من حيث إنها علاقات قائمة على النزاع والتنافس بخصوص توزيع الخيرات التي تكون مَحَطَّ اهتمام أعضاء المجتمع. فكيف يتحدد "الحق"؟ هل يقوم على أساس ما هو طبيعي في الوجود الإنساني أم على أساس ما هو وضعي فيه؟ وما العلاقة القائمة بين "الحق" و"العدل"؟ أيهما يُقَوِّم الآخر؟ هل "الحق" هو الذي يُمثِّلُ أساس "العدل" أم العكس؟ وكيف يتحدد "العدل" في واقع الحياة؟ هل هو "مساواة" قائمة على التوزيع العام والمجرد أم أنه "إنصاف" يأخذ بما تقتضيه كل حالة فردية من معاملة خاصة؟
1- الحق بين الطبيعي والوضعي
* تحديد الإطار الإشكالي: ما هو الأساس الذي يقوم عليه "الحق"؟ هل هو طبيعي يتمثل في ما هو مشتركـ وثابت بين الناس أم أنه وضعي يرتبط بما هو متعدد ومتغير في الحياة الإنسانية؟ هل "الحق" ثابت ومطلق أم أنه متغير ونسبي؟
* مفاصل المعالجة
يرى فلاسفة "الحق الطبيعي" (هوبز، إسـﭙـينوزا، لوكـ، روسو) أن الإنسان يتمتع، بمقتضى فرضية "حالة الطبيعة"، بـ"حق طبيعي" (droit naturel) يُساوِي "الحرية المطلقة" التي تجعل الناس أحرارا ومتساوين بالطبيعة. ويتحدد "الحق الطبيعي" بكونه واحدا، ثابتا ومطلقا ؛ إنه الحق الذي يجعل بإمكان كل واحد أن يُوجَد ويَسلُكـ بحسب ما تقتضيه طبيعته. و"الحق"، بهذا المعنى، هو الذي يُوجَد في أساس إقامة "العقد الاجتماعي" الذي يبني "المجتمع المدني" كمجال لحفظ وحماية حرية وملكية الأشخاص بما هم أعضاء مُتساوُون بفضل القانون الذي يُجسِّدُ إرادة المتعاقدين.
غير أن "الوضعانية القانونية" (le positivisme juridique) في استنادها إلى الواقع الفعلي تؤكد، خصوصا مع هانس كلسن (1881-1973 [Hans Kelsen])، أن ما يُسمى "الحق الطبيعي" يُعتبر مجرد وهم، لأنه يَفترض وجودَ طبيعة جوهرية للإنسان تتميز بالوحدة والثبات وتتعالى على الواقع التاريخي في تعدده وتغيره، في حين أن كل ما هو قائم في الحياة الفعلية للناس يتمثل في "الحق الوضعي" (le droit positif) الذي هو مجموعة من القواعد القانونية والقيم الأخلاقية التي يكون معمولا بها في مجتمع ما خلال فترة معينة. فـ"الحق الوضعي" أساس كل الحقوق التي يتمتع بها الناس، وهو خاضع في كل مجتمع لميزان القُوَى الذي يؤدي إلى تعديله أو تجاوزه كلما دعت الحاجة إلى ذلكـ، ويتجلى على شكل مجموعة من المعايير التي تتراتب بشكل تنازلي انطلاقا من أسمى معيار (الدستور) إلى أدنى معيار (رخصة، عقد، شهادة)، حيث إن كل معيار لا تَثْبُت صلاحيته إلا بالنسبة للمعايير التي تُوجَد فوقه.
وفيما وراء التعارض بين أنصار "الحق الطبيعي" وأنصار "الحق الوضعي"، فإن هناكـ اتجاها نحو الجمع بين كل منهما كما يتجسد ذلكـ في إعلانات حقوق الإنسان (إعلان الثورة الأمريكية 1786، إعلان حقوق الإنسان والمواطن بُعَيْد الثورة الفرنسية 1792، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة 1948)، حيث تم تأكيد "الحقوق الطبيعية والمقدسة" التي يتساوى فيها الناس بِغَضِّ النظر عن عرقهم أو جنسهم أو دينهم أو لغتهم أو مستواهم الاجتماعي. وهكذا، فـ"الحق الوضعي" لا يُلْغِي "الحق الطبيعي" وإنما يعمل على تنظيمه وتقنينه على نحو يجعله مُمْكنا بالنسبة إلى كل إنسان.
* تركيب واستنتاج
يقوم "الحق الطبيعي" على ما هو طبيعي في الإنسان، باعتباره أساسا مشتركا بين كل الناس، وذلكـ بمقتضى ما أودعته الطبيعة في ذات الإنسان من كرامة تجعل الإنسان بفطرته كائنا حرا وفاعلا. لكن كون "الحق الطبيعي" يستـند إلى طبيعة الإنسان (كمعطى جوهري ومطلق يتجاوز كل تحديد اجتماعي أو تاريخي) يقود إلى النظر في "الحق الوضعي" كما يتجسد في الواقع الفعلي، حيث لا يتم تعيين الحقوق إلا انطلاقا منه، الأمر الذي يُؤكِّد أن "الحق" لا يتحدد معناه إلا من خلال شروط اجتماعية وتاريخية متعددة ومتغيرة حسب المجتمعات والعصور. لكن الكونية التي توجد في "الحق الطبيعي" هي التي تُؤسِّسُ إمكان التمييز بين حق وآخر، ومن ثم فهي تتحدد كمعيار كلي وعام للحكم على "الحق الوضعي".
2- العدل كأساس للحق
* تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "الحق" بـ"العدل"؟ أيهما يؤسس الآخر؟ هل "العدل" كواقع قائم في مؤسسات وقوانين هو أساس "الحق" كمَثَل أعلى أم أن "الحق" في معياريته وكليته هو الذي يُمثِّل أساس "العدل" في جزئيته ونسبيته؟
* مفاصل المعالجة
يرى أرسطو (384-322 ق.م [Aristote]) أن "العدل" في تضاده مع "الظلم" يتميز بكونه "التصرف في حدود القانون على النحو الذي يؤدي إلى حفظ حقوق الغير"، مما يجعل "الظلم" يتحدد كسلوكـ يُنافي القانون والمساواة، حيث إن الظالم يتصرف ضد القوانين. ومن هنا، فإن كل الأفعال المُوافِقة للقانون تُعَدُّ أفعالا عادلة. فالقوانين تضبط الأفعال بهدف حماية المصلحة العامة ومصلحة أولياء الأمور طبق ما تُوجبه الفضيلة. وهكذا فـ«الفعل العادل هو الفعل القادر، كليا أو جزئيا، على إيجاد أو حماية سعادة الجماعة السياسية» ؛ الأمر الذي يجعل "العدل" فضيلة كاملة، بل أهم الفضائل قاطبة، من حيث إنه أساس ضمان "الحق"، إنه أروع من كل شيء آخر.
ويذهب أَلَان (1868-1951 [Alain]) إلى أن "الحق" (le droit) يتميز بالأساس عن "الأمر الواقع" (le fait)، فلا يكون "الحق" إلا على أساس الاعتراف من طرف سلطة حاكمة تُعلِن على الملإ أنه كذلكـ، فلا يكفي قيام وضع أو واقع للقول بأنه حق (مثلا امتلاكـ ساعة واستعمالها أو السكن في منزل مدة طويلة)، بل لا بد من حَكَمٍ عُمومي يُقِرُّ ويُعلن ذلكـ "الأمر القائم". لذا فإن "الحق" يتحدد وفق نسق من الأشكال والاتفاقات المتعلقة بالمُعامَلات بين الناس على أساس "العدل".
وفي نفس السياق، يؤكد فريدريكـ هايكـ (1889-1992 [Friedrich Hayek]) أن العدالة الاجتماعية أو التوزيعية لا يكون لها معنى إلا على أساس الشرعية القانونية، وليس معنى هذا أن كل قواعد السلوكـ العادل القائمة في المجتمعات تُعَدُّ قواعد قانونية ولا أن كل قانون يستند بالضرورة إلى قواعد السلوكـ العادل، وإنما هو أن القانون المرتكز إلى قواعد العدالة يكون له مقام استثنائي، بحيث إنه هو وحده الذي يُلْزِم المواطنين ويفرض نفسه على الجميع في مجتمع حر.
لكن المفكر الروماني شيشرون (163-43 ق.م [Cicéron]) يرى أنه ليس من المعقول في شيء اعتبار العدالة متمثلة في كل ما هو مُنَظَّم بواسطة المؤسسات والقوانين كما هو الأمر عند معظم الشعوب، لأن هذا يقود إلى قبول القوانين والمؤسسات المرتبطة بالطغاة والغزاة. ولهذا فإن أساس العدالة ليس شيئا آخر غير "الحق" الذي يقوم على "الطبيعة" والذي يُشَرِّع تبعا لمقتضيات "العقل" القويم، بحيث يمثل القانون أو المعيار الوحيد الذي يُمَكِّن من التمييز بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، في حين أن جعل المصلحة أساس "العدل" يُؤدي إلى تَغَيُّر الامتثال للقوانين بتغير المصالح. وهكذا، فـ«ما لم يَقُم الحقُّ على الطبيعة، فإن كل الفضائل تتلاشى».
3- العدل بين المساواة والإنصاف
* تحديد الإطار الإشكالي: كيف يتحدد "العدل" في الواقع؟ هل هو "مساواة" قائمة على التوزيع العام والمجرد أم أنه "إنصاف" يأخذ بما تقتضيه كل حالة فردية من معاملة خاصة؟
* مفاصل المعالجة
يذهب أفلاطون (327-447 ق.م [Platon]) إلى أن "العدالة" تتحدد، أولا، كـ"اعتدال" أو انسجام بين قُوَى النفس (الناطقة، الشهوانية، الغضبية) يُؤدي إلى الفضائل الثلاث: الحكمة، العِفَّة، الشجاعة. غير أن هذه الفضائل لا يُمكن أن تتحقق إلا على أساس قيام فضيلة رابعة هي "العدالة" التي تتمثل في انصراف كل واحد إلى فعل ما عليه القيام به وفق ما زودته الطبيعة به من قدرات. وتُعَدُّ هذه الفضيلة أعظم أسباب الكمال في "المدينة" أو "الدولة"، لأنها تجعل كل واحد (من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصُّنَّاع والحاكمين والمحكومين) يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل الآخرين. فـ"العدالة"، إذًا، اعتدالٌ بين قُوَى المجتمع يجعل الاعتدال بين قُوَى النفس ممكنا.
ونجد أن أرسطو يرى أن "العدل" (la justice) و"الإنصاف" (l’équité) متماثلان من جهة طبيعتهما النوعية دون أن تكون لهما نفس الصفات. وعلى الرغم من أن كُلًّا منهما مرغوب فيه، فإن "الإنصاف" مُفَضَّلٌ على "العدل"، لأنه ليس مجرد حكم وفق ما يقتضيه القانون كقاعدة عامة، بل هو تناولُ كل حالة بما تستحق بما هي حالة خاصة لا يكفي فيها الاعتماد على ما هو عام. لذا، فإن «الطبيعة الخاصة بالإنصاف تتمثل في تصحيح القانون، في المدى الذي يبدو غير كافٍ، بسبب طابعه العام. فالقانون لا يشتمل على كل شيء ».
غير أن ماكس شيلر (1874-1928 [Max scheller]) يرى أن اعتبار العدالة كمساواة كاملة بين الناس في كل شيء يجعلها جائرة، لأنها تُؤدِّي إلى خَفْض الأشخاص المحظوظين إلى مستوى المحرومين الذين يوجدون في أسفل السُّلَّم. لذا، يجب النظر إلى العدالة كإنصاف يراعي الاختلافات والفروق بين الناس من حيث إنهم يتفاوتون فيما بينهم على أكثر من مستوى، مما يجعل المساواة المنشودة تُعبِّر في الواقع عن نوع من الحقد تجاه القيم العليا.
وفي نفس السياق، يرى جون راولز (1921-2002 [John Rawls]) أن النظر إلى العدالة كإنصاف يقتضي توزيع الامتيازات بطريقة تضمن التعاون الإرادي لكل أعضاء المجتمع، وذلكـ باعتماد مبدأين مختلفين، يفرض أولهما المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، في حين يفرض ثانيهما عدم المساواة اجتماعيا واقتصاديا. ويمثل هذان المبدآن قاعدة مُنْصِفَة تُمَكِّن المحظوظين من أن يضمنوا تعاون باقي الشركاء من المحرومين الذين يجدون، بمقتضى مبدإ تكافؤ الفرص، أنه بإمكانهم الاستفادة من نفس الحقوق الأساسية وبلوغ نفس المراتب. وهكذا، فإن العدالة "مساواة" تُـقِرُّ نَفْسَ الحقوق والواجبات بالنسبة لكل المواطنين، وفي الآن نفسه هي "إنصاف" يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الخاصة بالمحظوظين والمحرومين معا من دون الإجحاف في حق أي منهم.
* تركيب واستنتاج
تُعتبَر العدالة مساواةً بين الناس في الحقوق والواجبات. لكن إقرار العدالة كمبدإ لتوزيع الخيرات في المجتمع يحتاج إلى النظر في الأوضاع الخاصة بمختلف الفئات بموجب قاعدة "الإنصاف" التي تُمَكِّن المحرومين من الاستفادة من الخيرات ولا تضع عوائق أمام المحظوظين ذوي الامتيازات، وذلكـ على النحو الذي يُؤدِّي إلى تعاون الجميع لبناء العدالة كنظام اجتماعي مُنْصفٍ يضمن مصلحة كل الأفراد والجماعات في إطار نظام ديموقراطي عادل.
مجزوءة III: السياسة
1- الدولة
تقديم المجزوءة الثالثة
يتحدد الإنسان بصفته كائنا فاعلا يعمل على الاستجابة لحاجاته الحيوية ضمن الشروط الطبيعية والاجتماعية المُحدِّدة لوجوده، حيث إنه يجد نفسه - في خلال سعيه لتحقيق حاجاته- متفاعلا، ليس فقط مع الظروف الطبيعية لوسطه، وإنما أيضا مع أعضاء المجتمع حيث يعيش، مما يجعله بالضرورة "كائنا اجتماعيا". وتتعلق الشروط الطبيعية أساسا بمجموع شروط الوسط البيئي حيث يُقَدَّر للإنسان أن يعيش، وهي شروط يطبعها التغير والندرة، مما يضطر الإنسان إلى الاجتهاد على نحو تنازعي وتنافسي لتحصيل حاجاته. ومن هنا تتكون الشروط الاجتماعية التي تجعل وجود الإنسان وجودا جماعيا وتفاعليا. وكون الوجود الإنساني مُحاطا بأسباب طبيعية واجتماعية تقود إلى النزاع والصراع هو الذي يؤدي إلى التفكير في موضوع "السياسة" بما هو موضوع يرتبط بتدبير الفعل الجماعي القائم أصلا على النزاع بغية تفادي تدمير الحياة (أي العنف) بإقامة شروط مدنية للعيش تجعل للناس مصلحة في السلوكـ وفق ما يقتضيه التنظيم السياسي للمجتمع (أي الدولة) القائم على مبدإ "الشرعية" (أي الحق) الذي يضمن المساواة والإنصاف بين كل أعضائه (أي العدل).
المفهوم الأول: الدولة
* تقديم مفهوم الدولة
تمثل "الدولة" (The state, L’Etat) هيئة عليا تفرض سيادتها، من خلال ممارسة السلطة، على مجتمع إنساني بشكل يُمكِّنها من ضمان وحدته واستمراره إزاء الأخطار المُهدِّدة داخليا (التمزق والصراع المفتوح) وخارجيا (الحرب والحصار)، ويُمكِّنها كذلكـ من تمثيله بالخارج سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى العالمي. وتتحدد "الدولة"، في الواقع، باعتبارها مجالا لتكوُّن واشتغال مجموعة من "المؤسسات السياسية" التي تقوم بـ"تمثيل" إرادة الشعب أو الأمة (الرئيس أو الملكـ، الحكومة، مجالس التمثيل النيابي) وبـ"إدارة" شؤون المواطنين والبلاد (وزارات، وِلَايات، عمالَات، هيئات، مرافق). وهكذا، فإن "الدولة" تُعَدُّ تنظيما قانونيا ومُؤَسَّسِيا وسياسيا لكل ما يتعلق بـ"الشأن العام" الخاص بشعب أو أمة على امتداد حدود ترابية معينة. إنها تُجسِّد "الإرادة العامة" لأعضاء المجتمع بما هي إرادة تَدُلُّ وتسمو في آن واحد على "الإرادات الفردية" لهؤلاء الأعضاء الذين هم "مواطنون" (أحرار ومُتساوُون) في حماية ورعاية "الدولة" بما لها من موارد وصلاحيات تُمَكِّنُها من التدخل والفعل على النحو الذي يُحقِّق "المصلحة العامة" بالنسبة لكل المواطنين الذين يلتزمون بالمساهمة في التكاليف الضرورية لقيام واستمرار "الدولة" وأيضا باحترام صلاحياتها واختصاصاتها أملًا منهم في ضمان حقوقهم على أحسن وجه ممكن. وهكذا فإن "الدولة" قدرة على الإلزام المشروع وعلى حماية حقوق المواطنين في الأمن والحرية والعدل. وبهذا، فهي تُمثِّل أحد أهم المكتسبات العقلانية الذي أدى إليها التراكم الاجتماعي والثقافي عبر آلاف السنين من التطور التاريخي للإنسانية في هذا العالم.
* الوضعية-المشكلة
يجعلنا تناول موضوع "الدولة" نطرح جملة من الأسئلة الإشكالية: هل تُعَدُّ "الدولة" خاصية طبيعية للمجتمع الإنساني أم أنها بناء تاريخي وثقافي؟ ما الذي يُعطيها الحق في الوجود والفعل؟ على ماذا تقوم مشروعيتها؟ هل على أسباب تاريخية أم على وظائف وغايات مُحدَّدة يُفوَّض إليها أمرُ تحقيقها والقيام بها؟ ما طبيعة السلطة السياسية؟ هل هي امتياز شخصي وخاص أم هي آليات مُؤسَّسِية لتوزيع الموارد ذات القيمة في مجال اجتماعي وتاريخي معين؟ ما علاقة "الدولة" بـ"العنف" و"الحق"؟ هل تُمارِس سلطتها على أساس "القوة" و"العنف" أم على أساس "الحق" و"القانون"؟
1- مشروعية الدولة وغاياتها
* تحديد الإطار الإشكالي: من أين تستمد "الدولة" مشروعيتها؟ هل من قدرتها على ضمان "الأمن" و"الحقوق" أم من كونها قوة إلزامية وقمعية؟ ما هي الغايات التي وُجدت "الدولة" من أجل تحقيقها؟
* مفاصل المعالجة:
تبدو "الدولة" أمرا بديهيا من حيث إنها السلطة التي تجعل الوجود الجماعي للإنسان ممكنا. لكن "الدولة" ليست واقعا مُلازِما للوجود الجماعي للإنسان. إنها نتاج حديث إلى حدٍّ بعيد، نتاج يمثل مآل آلاف السنين من التطور التاريخي والاجتماعي للبشرية. ونجد أن فلاسفة "العقد الاجتماعي" (توماس هوبز، باروخ إسـﭙينوزا، جون لوكـ، جون-جاكـ روسو) عملوا بين القرنين 17 و18 على تأسيس مشروعية "الدولة" انطلاقا من فرضية "حالة الطبيعة" (l’état de nature). إذ أنهم افترضوا أن تصور الإنسان خارج المجتمع يُعطيه "حقا طبيعيا" يجعله يتصرف بحرية كاملة حسب ما تُمليه عليه رغباته وفي حدود ما تسمح به قدرته على الفعل. وهذا يؤدي إلى ربط الحق بالقوة، أي أن الحق يكون للأقوى. ومن هنا فإن "حالة الطبيعة" تؤول بالضرورة إلى تهديد حقيقي للوجود الإنساني، مما يُوجب التفكير في الخروج منها بالتخلص من "الحق الطبيعي" (إن كلًّا أو جزءا) بتفويضه لـ"حاكم أسمى" تصير له "السلطة" التي يجب أن يخضع لها الجميع خوفا من العقاب أو طمعا في مكاسب أعظم ليس أقلها حفظ الحياة والاستمرار في الوجود. وهكذا، فإن تصور "حالة الطبيعة" يُمَكِّن من جعل قيام "الدولة" يستند إلى "عقد اجتماعي" (un contrat social) يتم بين الناس حيث يفوضون بموجبه حقهم الطبيعي من أجل تشييد المجتمع الذي تكون فيه السلطة متعالية على إرادات الأفراد وموجهة بالأساس إلى حفظ الأمن والسلم اللذين لا تستمر الحياة بدونهما واللذين يجعلان "الحرية" (بما هي جوهر "الحق الطبيعي") متحققة بشكل موضوعي.
غير أن "فريدريكـ هيـﮕل" (1778-1831 [Friedrich Hegel]) يرى أن مشروعية "الدولة" لا تقوم على حفظ السلم والأمن بممارسة السيادة كسلطة زجرية وقوة رادعة، ولا على ضمان مصالح الأفراد، إذ في هذا خلط بين "الدولة" (كمجال عمومي) و"المجتمع المدني" (كمجال خاص). إن مهمة "الدولة" لا تتمثل في حماية حقوق الأفراد (الحرية والتملكـ)، وإنما هي المجال الذي يسمح بالتحقق الموضوعي للأفراد كذوات أخلاقية وأشخاص أحرار، فالفرد في حد ذاته ليس له من "الموضوعية" و"الأخلاقية" إلا بقدر ما يكون عضوا في "الدولة"، حيث إن اجتماع الأفراد يُعَدُّ الهدف الحقيقي لوجودهم وهو بمثابة تعاقد يُعبِّر عن إرادتهم المشتركة.
ومن جهة أخرى، يذهب "ماكس ﭭـيبر" (1867-1920 [Max Weber]) إلى أن البحث في أنماط السيطرة أو السلطة في المجتمعات الإنسانية يكشف عن وجود ثلاثة أشكال من المشروعية: "مشروعية تقليدية" تقوم على التقاليد والأعراف كجملة من الطرق والأساليب التي ثبتت صلاحيتها وترسخ احترامها في الوعي الجماعي على نحو يجعلها تُسَوِّغُ قيام سلطة الأب الكبير أو الشيخ ؛ "مشروعية لَدُنِيَّة" أو "كارزمية" (légitimité charismatique) تعتمد على المؤهلات الخاصة بشخص الحاكم كما تتجلى تاريخيا في شخصية النبي أو البطل أو الزعيم بما لها من جاذبية وقدرات خارقة ؛ ثم "مشروعية عقلانية" تقوم على الشرعية القانونية التي تُحَدِّدُ مهام واختصاصات الموظف في المجتمعات الحديثة بصفته خادما للدولة في إطار ما يسمح به القانون. لكن الأمر هنا يتعلق، كما يؤكد ﭭـيبر، بنماذج مثالية لا توجد في الواقع بشكلها الخالص إلا نادرا جدا، مما يدل على أن تلكـ الأشكال يمكن أن تتداخل وتتراكب، الأمر الذي يجعل مشروعية السلطة أو السيطرة واقعا معقدا يخضع لجملة من العوامل الاجتماعية والثقافية التي تشتغل على نحو متكامل ودينامي في كل مجال يعرف قيام أحد أنماط السلطة أو السيطرة.
* تركيب واستنتاج
تُعتبَر "الدولة" مجالا لقيام نوع من التدبير السياسي والقانوني للشؤون العامة بمجتمع معين. ومن هذه الناحية فإن مشروعيتها تستند إلى جملة من العوامل التاريخية والاجتماعية التي تتسم بالتعدد والتنوع. لكن مشروعية "الدولة" تبقى قائمة على التعاقد الاجتماعي بين الأفراد كأعضاء في المجتمع، وهو التعاقد الذي يُؤسِّس "المجتمع المدني" ويُمثِّل الأساس العقلاني لقيام "الدولة" من حيث هي الإطار الواقعي والموضوعي الذي يُمكِّن من تحقق أخلاقية الإنسان ككائن اجتماعي وسياسي.
2- طبيعة السلطة السياسية
* تحديد الإطار الإشكالي: ما هي طبيعة السلطة السياسية؟ هل تنحصر في "الدولة" كمجموعة من الأجهزة التي تُمارِس الإكراه والقمع أم أنها جملةٌ من الإمكانات والقُوَى التي تتخلل المجتمع بكامله؟ وهل هي متعاليةٌ على المجال الذي تُمارَس فيه أم أنها مُلَازِمةٌ ومُباطِنة لسيرورة التفاعل الاجتماعي بمختلف مظاهره وأنواعه؟
* مفاصل المعالجة
يرى "مونتسكيو" (1689-1755 [Montesquieu]) أن كل دولة توجد فيها ثلاثة أنواع من السلطة: "سلطة تشريعية" تضع القوانين أو تُصحِّحُها، "سلطة قضائية" تفصل بموجب هذه القوانين في النزاعات القائمة، و"سلطة تنفيذية" تعمل على تطبيق الأحكام وحفظ الأمن والسلم ومعاقبة الجُنَاة والمجرمين. واجتماع هذه السلطات الثلاث في يد شخص محدد أو هيئة واحدة يؤدي إلى ضياع كل الحقوق، وبالخصوص الحرية. لهذا فإن "الدولة الحديثة" لا قيام لها من دون الفصل بين هذه السلطات على نحو يُمَكِّن من تفادي الحكم الاعتباطي على حياة وحقوق المواطنين، ومن ثم ضمان توزيع السلطة على نحو متوازن بين هيئات الدولة.
ويذهب جون لوكـ إلى أن البشر يُعَدُّون بطبيعتهم أحرارا ومتساوين على النحو الذي يجعل من المستحيل تحويل أي إنسان عن هذا الوضع وإكراهه على الخضوع لسلطة إنسان آخر من دون موافقته. لذا فإنه لا بد من حصول الاتفاق بين أفراد المجتمع لقيام هيئة تكون لها صلاحية التصرف بمقتضى قرار الأكثرية. وخضوع الفرد لهذا القرار ليس خضوعا لشخص بعينه وإنما هو خضوع لقرار المجموع، خضوع يؤدي إليه الالتزام الموجود في أصل العقد الاجتماعي الذي يهدف بالأساس إلى حماية حقوق الأشخاص الذين يستمرون بموجبه أحرارا ومتساوين حيث إنهم لم يُفَوِّضُوا سوى حقهم في الدفاع عن النفس الذي تتكفل به "الدولة" كما تتكفل بحماية حريتهم وكل حقوقهم في التفكير والفعل والتملكـ والتنقل.
وعلى هذا الأساس، فإن السلطة تتمثل في "الدولة" كعدد من الأجهزة التي تتجاوز الإرادات الفردية والتي تعمل وفق المصلحة العامة لأعضاء المجتمع. وبهذا الصدد يرى "لويس ألتوسير" (1918-1990 [Louis Althusser]) أن "الدولة" تتحدد كمجموعة من الأجهزة التي تشتغل وتتصرف على نحو يجعلها تُمارِس السلطة في المجتمع إما كأجهزة للقمع والإكراه (الجيش، الشرطة، السجون) وإما كأجهزة لتسخير فئات المجتمع بواسطة إنتاج ونشر أفكار ورُؤًى تضمن خضوع الناس (مجموعة من "الأجهزة الإيديولوجية": كنائس، أُسَر، مدارس، وسائل الإعلام، أحزاب، نقابات، إلخ.).
لكن "مشيل فوكو" (1926-1984 [Michel Foucault]) يذهب إلى أن اعتبار السلطة مجموعة من المؤسسات والأجهزة (التي تُمَكِّن من إخضاع المواطنين داخل "الدولة" أو كنظام للهيمنة يُمارِسه شخص على آخر) لا يجعلنا نُمسكـ بحقيقة السلطة. فهذه الأشكال من الفعل ليست سوى ما تنتهي إليه ممارسة السلطة، في حين أن الواقع يتمثل في علاقات القُوَى المتعددة التي تكون مُلَازِمة لمجالٍ ما بفعل المواجهات والصراعات التي تشمل المجتمع بكامله. ومن هنا، فإن السلطة حاضرةٌ في كل مكان من الجسم الاجتماعي دون أن تتعين في مكان بعينه. إنها لا تأتي لا من فوق ولا من تحت، بل تأتي من كل الجهات، حيث إنها سلسلة من الخُطَط أو الاستراتيجيات المتناهية الصِّغَر التي تتخلل مجتمعا برمته. وهكذا فـ"السلطة" ليست سوى اسم يُشير إلى واقع اجتماعي شديد التنوع والتعقد، واقع يتجلى من خلال مجموع الأوضاع المتفاوتة التي يدخل فيها الفاعلون باستمرار أثناء مختلف تفاعلاتهم.
* تركيب واستنتاج
تقوم "الدولة" كسلطة سياسية لها القدرة على الفعل والتصرف بشكل يتجاوز الإرادات الفردية لأعضاء مجتمع معين، وذلكـ من خلال مجموع الأجهزة والمؤسسات التي تُجَسِّد، في الواقع الفعلي، "سلطة الدولة". لكن حتى في هذا التجسيد تبدو "السلطة" متعددة ومُوزَّعة عبر "هيئات الدولة"، مما يؤكد أنها تتعلق بالواقع الاجتماعي كنسق من الإمكانات التفاعلية والدينامية التي تُعَبِّر عن الفاعلية الإنسانية بما هي فاعلية سياسية قائمة على النزاع والتنافس في إطار مجتمع مدني يَكْفُل قيام عدد من المجالات التي تكون مسرحا لنشوء وتطور أشكال متنوعة من الإلزام والهيمنة عبر الجسم الاجتماعي كله.
3- الدولة بين الحق والعنف
* تحديد الإطار الإشكالي: على أي أساس تُمارِس الدولةُ سياستَها؟ هل بواسطة "القوة" كما تتجلى في أجهزة القمع والردع أم بواسطة "الحق" كمجموعة من القوانين التي تُعطي لفعل الدولة شرعيته؟
* مفاصل المعالجة
تبدو "الدولة"، بما هي سلطة قائمة على الإكراه والإلزام، كما لو كانت قوة خالصة تُمارس العنف والقمع. لكن "الدولة" مجال لممارسة التنظيم السياسي للمجتمع على نحو يسمح بتدبير مدني وعقلاني لشؤونه العامة، مما يجعلها قائمة في الوقت نفسه على "الشرعية القانونية" التي تُمَثِّل الإرادة العامة للشعب أو الأمة التي هي المصدر الحقيقي للسيادة والسلطة المُخَوَّلة للدولة. لذا فإن "الدولة" تتجسد، فعليا، في "القانون" كواقع مؤسسي وإداري للتنظيم السياسي لـ"المجتمع المدني".
وبهذا الخصوص، يرى "نيقولا مكياﭭـيل" (1469-1527 [Nicolas Machiavel]) أن ممارسة الصراع السياسي من طرف الأمير أو الحاكم تعتمد طريقتين، إحداهما تقوم على القوة في طبيعتها الحيوانية وثانيهما تستند إلى القانون كمجموعة من القواعد والقيم الضابطة لسلوكـ الإنسان. وطبيعة الاجتماع البشري (كمجال للنزاع والتنافس) تفرض استعمال الوسيلتين معا (القوة والقانون). فالحاكم مُضْطَرٌّ لأن يكون في آن واحد أسدًا يُخيف الذئاب وثعلبا يتفادى مكامن الشِّرَاكـ، بل إنه في الواقع ليس في حاجة إلى أن يمتلكـ كل هذه الصفات، وإنما يحتاج فقط إلى أن يُجيد التظاهر بها حسب الظروف والمناسبات، وأن يكون مُستعدا دائما للتخلي عن القواعد القانونية والأخلاقية والعمل بضدها عند الاقتضاء، مما يعني أن السياسة مجالٌ يفرض استعمال كل الوسائل التي تُمَكِّن من امتلاكـ وممارسة السلطة.
ومن ناحية أخرى، يذهب ماكس ﭭـيبر إلى أن "الدولة" (كتجمع سياسي حديث) لا تتحدد بما تقوم به من مهام، لأن هذه المهام كانت على الأقل في جزء منها موضوعا لفعل التجمعات السياسية في الماضي، وإنما تتحدد اجتماعيا بالوسيلة الخاصة المُمَيِّزة لها، وهي وسيلة تتمثل في احتكار استعمال العنف المادي المشروع، أي أن "الدولة" تَجَمُّعٌ سياسيٌّ يتميز باحتكار الاستعمال الشرعي لكل أنواع العنف المادي في حدود مجال جغرافي معين. ولهذا فإن قيام "الدولة" يمنع الأفراد وكذا كل التجمعات الأخرى من اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف المادي. وبالتالي فإن "الدولة" تُعَدُّ، في إطار المجتمعات الحديثة، المصدر الوحيد لـ"الحق" في استعمال العنف، إذ لا يَحِقُّ لأحد أن يُمارس العنف إلا بإذن من "الدولة" التي تحتكر، على مستوى المجتمع، الحق في استعمال القوة. فـ"الدولة" إذن تتحدد في آن واحد كـ"قوة" و"حق".
ومن ثم، فإن "الدولة" صارت تعتبر "دولة حق" (Etat de droit). وفي هذا السياق، ترى "جاكلين رُوس" (Jacqueline Russ) أن "دولة الحق" تؤدي إلى ممارسة عقلانية للسلطة من حيث إنها تقوم على "القانون"، فهي سلطة تتميز بالاستناد إلى "القانون الوضعي" الذي ينبني على احترام "كرامة الإنسان" (حقوق الإنسان) وعلى "الفصل بين السلطات". وبهذا فإن "دولة الحق" تُمثِّل الشكل المتقدم والعقلاني من تنظيم المجتمعات الحديثة، وهو الشكل الذي يجعل أفراد المجتمع ذوي كرامة واجبة الاحترام وحقوق مضمونة بالنسبة إلى جميع أعضاء المجتمع كمواطنين أحرار ومتساوين.
* تركيب واستنتاج
تتجلى "الدولة" في ظل المجتمعات الحديثة كمجال لتأسيس الفعل السياسي وفق الشرعية القانونية، بحيث إنه في إطارها يصير ممكنا تنظيم المجتمع المدني على نحو يسمح بتدبير السلطة في أفق بلورة أشكال عقلانية من التجمع السياسي قائمة على التوازن والمساواة والعدل بشكل يضمن تجاوز العنف العشوائي وقيام آليات لتدبير أنواع الاختلاف بين مُكوِّنات المجتمع وتسهيل الاندماج والتضامن بينها لحفظ وحدة المجتمع واستمراره وازدهاره. لكن تَعقُّد أشكال التطور الاجتماعي وثِقَل التراكمات التاريخية، فضلا عن الصعوبات المتعلقة بتحولات المحيط الطبيعي، كلها تحديات تُواجِه هذا النموذج من التنظيم العقلاني للمجتمع السياسي الذي تُمثِّلُه "الدولة". ومن هنا، فإن ثمة عدة إشكالات تستمر قائمة حول مفهوم "الدولة"، خصوصا حول إمكانات الإدماج والاستيعاب لمختلف مظاهر التفاوت والتمايز في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات وتزداد وسائل التقريب والتقارب، وذلكـ في نفس الوقت الذي تشتدُّ أشكال وأسباب التباعد، ليس فقط بين أعضاء المجتمع الواحد، بل بين مختلف المجتمعات المُكوِّنة لدول وبلدان العالم.
مجزوءة III: السياسة
المفهوم الثاني: العنف
* تقديم مفهوم العنف
يُعَدُّ الإنسان كائنا فاعلا إلى جانب أمثاله من الفاعلين في عالم يتميز بوفرة الشروط المتحكمة في كل إمكانات الفعل وبتعدد المصادر الدافعة إليه، سواء من جهة الوجود الجماعي للإنسان الذي يُوجب التفاعل أو من جهة الوجود الطبيعي المتفاوت في موارده ومُعطياته بشكل يستدعي النزاع والصراع. ولهذا فإن الفاعلية الإنسانية مُوَلِّدة ومُنتجة لـ"العنف" الذي يتغلغل في الحياة الإنسانية بِكُلِّ جوانبها ومستوياتها والذي يتشكل حسب مختلف ظروف الحياة الإنسانية على نحو يجعله ظاهرة معقدة تُفْلِتُ من كل تحديد. وهكذا، فإنه بنفس القدر الذي يُشَكِّل "العنف" أحد مظاهر الفعل الإنساني، فإنه يفرض نفسه كأحد التحديات الكبرى التي تُواجه وجود الإنسان في هذا العالم.
* الوضعية-المشكلة
مارس الإنسان "العنف" عبر التاريخ بأشكال متنوعة وبأقدار مختلفة، بحيث يبدو "العنف" مُلازِما للوجود البشري. فهل يُعَدُّ "العنف" أحد الثوابت التي تُميِّز الطبيعة الإنسانية؟ ما هي أشكاله الأساسية وما أهميتها؟ ما علاقة "العنف" بالتاريخ الإنساني؟ هل هو أحد العوامل المُساهِمة في صنع التاريخ وتحقيق التوازن الاجتماعي أم أنه ليس سوى ظاهرة على هامش الأحداث التاريخية؟ كيف نُفسِّر استمرار "العنف" رغم تطور "المجتمع المدني" وقيام "الدولة"؟ هل يُعَدُّ كل عنف، بالتحديد، فعلا غير مشروع أم أن هناكـ أنواعا من "العنف" تحظى بمشروعية اجتماعية أو قانونية؟
1- أشكال العنف
* تحديد الإطار الإشكالي: ما هي طبيعة "العنف"؟ وما هي أنواعه وأشكاله؟ هل "العنف" واحد أم متعدد؟ وهل هو مرتبط بطبيعة الإنسان أم أنه لا يرتبط بالإنسان إلا في المدى الذي يُعَدُّ كائنا محددا بشروط اجتماعية وتاريخية؟
* مفاصل المعالجة
يرى "إيـﭪ ميشو" (1942-؟ [Yves Michaud]) أنه « يكون هناكـ عنفٌ إذا قام، في وضع تفاعلي معين، واحد أو مجموعة من الفاعلين بالتصرف بشكل مباشر أو غير مباشر، مرة واحدة أو بتدرج، على نحو يُلحِق الضرر بواحد أو أكثر من الأشخاص الآخرين بدرجات متغيرة، سواء على المستوى المادي أو على المستوى المعنوي، وسواء أتعلق الأمر بالممتلكات المادية أم بالخيرات الرمزية والثقافية». وكونُ "العنف" يتحدد بهذه الصورة يجعله يتخذ أشكالا متعددة وأحجاما مختلفة عبر المجتمعات والعصور. فالمجتمعات الإنسانية عرفت ولا تزال قيام أنواع متعددة من "العنف" تتراوح بين ما هو أكثر فظاعة وضرواة (كما في القتل خلال الحرب أو الإعدام أو التعذيب) وما هو أشد خفاء (سوء التغذية). كما أن العنف في ارتباطه بالمجتمع الإنساني يخضع لا فقط لمستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وإنما يخضع أيضا لدرجات التقدم العلمي والتقني وللوسائل والآليات المترتبة عنه. وهكذا، فالعنف يزداد اتساعا وتعقدا تبعا لمختلف التطورات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية. وتُعَدُّ الفترةُ المعاصرة إحدى أشد الفترات عنفا في التاريخ البشري، وذلكـ على كل المستويات التي صارت تتجاوز الواقع لتـشمل كذلكـ الصور الخيالية والافتراضية.
ومن ثم فإن "العنف" يتحدد كظاهرة اجتماعية وتاريخية مسيطرة على الحياة الإنسانية، الأمر الذي يجعل "الإنسان ذئبا للإنسان" كما يقول "هوبز" وكما يؤكد ذلكـ "سيغموند فرويد" (1856-1939 [Sigmund Freud]) الذي يرى أن النزوع إلى العدوان طبيعيٌّ في النفس الإنسانية وأنه يُشكِّلُ العامل الرئيسي في علاقات الناس بعضهم مع بعض، حيث إن الأهواء الغريزية أقوى من الاهتمامات العقلية في واقع الحياة البشرية. ومن هنا فإن الحضارة تبذل كل ما في وسعها للحد من العدوانية الإنسانية سواء بتطوير مناهج تَحُثُّ الناس على إقامة علاقات تقارب ومودة بينهم أو بتقييد الحياة الجنسية. غير أن التدخل القانوني والأخلاقي للمجتمع بدلا من أن يُؤدي إلى تقليص العدوانية في المجتمع فإنه يعمل، بما هو عملية قمع للنزوع الطبيعي، على تكريسها وزيادتها بشكل يجعلها تتخذ تجليات أكثر حذرا وأشد خفاء.
لكن "إيريكـ فروم" (1900-1980 [Erich Fromm]) يُلاحظ أنه إذا كانت دراسة بعض الظواهر الاجتماعية (الحياة الجنسية، الطقوس) قد تُوحِي بأن النزعة التدميرية متجذرةٌ في طبيعة الإنسان، فإن التحليل المتعمق لهذه الظواهر يكشف عن أن العدوان والتدمير ليس مَيْلًا فطريا، وإنما هو حصيلةُ دوافع ونزوعات وثيقة الصلة بشروط موضوعية تتمثل في الحروب والنزاعات والتفاوتات الاقتصادية وضغوط الحياة الاجتماعية وإكراهاتها، فـ« ليست الطبيعة البشرية نفسها هي التي تدفع فجأة إلى القيام بتلكـ الممارسات، بل هناكـ طاقة تدميرية كامنة تُغَذِّيها الظروفُ الخارجية والأحداث المُفاجِئة فتدفعها إلى الظهور».
ومن جهة أخرى، يذهب "ﭙـيير بورديو" (1930-2002 [Pierre Bourdieu]) إلى أن أنماط السيطرة الاجتماعية والثقافية من حيث إنها قائمة على أُسُسٍ تُعتبر، من الناحية الاجتماعية، اعتباطيةً (arbitraire)، فإنها ترتبط بممارسة نوع من العنف "الرفيق" أو "اللطيف" (une violence douce) هو "العنف الرمزي" (la violence symbolique) الذي هو كل عنف يتلقاه الفاعل الاجتماعي بالقبول أو التجاهل كما لو كان طبيعيا أو بديهيا بفعل نَوْعٍ من التواطؤ الوجودي الذي يجعل البنيات الذهنية/الذاتية تتوافق مع البنيات المادية/الموضوعية للعالَم الاجتماعي. فكونُنَا نُولَدُ ونُنَشَّأُ في مجالٍ اجتماعيٍّ أمرٌ يجعلُنا نتقبل عددًا من الأشياء التي تفرض نفسها علينا بتلقائية وسهولة من دون أن تحتاج إلى عمل إضافي للترسيخ، مما يُشكِّلُ أساسَ السيطرةِ التي يخضع لها الفاعلون الاجتماعيون، ليس كما لو كانت حتمياتٍ تنزل من أعلى بِثِقَلها الإكراهي المُحدِّد لإراداتهم، وإنما كنسق من التفاعلات والتوازنات بين المُحدِّدات الحتمية الموضوعية وكيفيات إدراكها بواسطة البنيات الذاتية، مما يجعل الفاعلين يُسْهِمُون في إنتاج ما يُمارَسُ عليهم من آثار السيطرة ضمن مجالهم الخاص. ومن هنا فإن العنف الرمزي يرتبط بالنظام العادي للأشياء في الواقع الاجتماعي، الأمر الذي يجعله أشدَّ أنواع الإقناع السِّرِّي التي تُمارَس على الفاعلين الاجتماعيين بتواطؤٍ منهم بفعل انغماسهم الطبيعي في المجتمع.
* تركيب واستنتاج
يتعلق "العنف" بفاعلية الإنسان في ارتباطها بشروط الواقع الاجتماعي القائم على التفاوت والصراع، مما يجعل "العنف" مُلازِما للوجود الإنساني في خضوعه لعددٍ من الإكراهات الضرورية التي تتحكم في إمكانات القوة لدى الناس كأعضاء في مجتمع والتي تُوَجِّهُها، من ثم، في سياق تفاعلي وتنازعي على نحو يؤدي إلى بُروز أشكال من "العنف" تتخلل التاريخ والاجتماع الإنسانيين.
2- العنف في التاريخ
* تحديد الإطار الإشكالي: كيف يتجلى العنف عبر التاريخ الإنساني؟ هل هو أحد أسباب الصيرورة التاريخية أم أنه ليس سوى إفراز محدود على هامش حركة التاريخ الإنساني؟
* مفاصل المعالجة
يعتبر "توماس هوبز" أن الطبيعة الإنسانية تقوم على ثلاثة انفعالات تمثل الأسبابَ الحقيقية لكل نزاع في الحياة والتاريخ الإنسانيين: يتعلق الأمر بـ"التنافس"، "الحذر" و"الكبرياء" ؛ فـ"التنافس" يجعل الناس يتخذون الهجوم طريقا لبلوغ مصالحهم، و"الحذر" هو الوسيلة لضمان أمنهم، في حين أن "الكبرياء" تؤدي إلى حفظ السمعة. وكل هذه الانفعالات ترتبط باللجوء إلى العنف إما للسيطرة على ممتلكات الآخرين وإما للدفاع عن النفس والممتلكات. ومن حيث إن هناكـ دائما احتمالَ التعرض للهجوم والعنف من طرف الآخر، فإن الناس يعيشون دائما (حتى في حالة السلم والأمن) أجواء الحرب من خلال الاستعداد لها وتوقعها باستمرار. وهكذا نُدرِكـ أهمية الحرب في التاريخ الإنساني من جهة ارتباطها بالطبيعة البشرية في قيامها على النزاع والقوة.
وتقوم الفلسفة الماركسية (مع ماركس وإنغلز) على أن الصراع يُشكِّل المُحرِّكـ الأساسي في التاريخ الإنساني، ذلكـ بأن الوجود الاجتماعي قائم على التفاوت بين الذين يملكون وسائل الإنتاج والذين لا يملكون سوى قوة عملهم، وهو التفاوت الذي يؤدي إلى انقسام المجتمع إلى طبقات متضادة ومتصارعة، حيث إن تاريخ الإنتاج يتجلى كسلسلة من التناقضات المادية والاجتماعية التي ترتبط بصراعات طبقية (بين الأحرار والعبيد في الطور العبودي، بين السادة والأقنان في الطور الإقطاعي، بين مالكي وسائل الإنتاج والعمال الكادحين في الطور الرأسمالي) تقوم بين المسيطرين والمضطهدين على شكل حروب تنتهي إما إلى تغيير جذري للمجتمع وإما إلى تحطيم الطبقتين كلتيهما. ومن هنا فإن الجدل التاريخي يلعب فيه الصراع دورا رئيسيا، حيث إن الانتقال من طور إلى آخر لا يتأتى إلا باحتدام الصراع بين الطبقات المتصارعة على نحو يُمَكِّن من إحداث التغيير الضروري في البنيات الاقتصادية والاجتماعية.
ويذهب "روني جيرار" (1923-؟ [René Gérard]) إلى أن المجتمعات الإنسانية قائمة على الصراع الذي يرتبط بعوامل التنافس التي تجد أصلها في الرغبات المتفاوتة في تعلقها بنفس الأشياء التي هي موضوع للطلب من طرف الآخرين. ويتميز العنف في الحياة الإنسانية بأنه يستند إلى آلية المُحاكاة التي تجعله عُنْفًا مُعْدِيًا قابلا للانتشار بشكل تلقائي، مما يُؤَدِّي إلى وجود أعمالِ عُنْفٍ يُمكن أن تتسلسل بلا نهاية على نحوٍ يُهَدِّدُ استمرار وبقاء النوع الإنساني. من هنا تأتي الطقوس المتعلقة بـ"التضحية" (le sacrifice) كآلية لإيقاف دورة الانتقام في دُوَّامة العنف، حيث يتم نقل العداء إلى ضحية واحدةٍ (كبش الفداء) تحمل كل الرغبات المتناقضة والمتنافسة لأعضاء المجتمع. وهكذا يتم توجيه العنف إلى الضحية كتعويض عن العنف الذي يمكن أن يُوَجَّه إلى الآخرين، بحيث يتأتى التأسيس الاجتماعي للعنف المقدس كما عرفته كل المجتمعات الإنسانية من خلال طقوس التضحية بـ"كبش الفداء".
* تركيب واستنتاج
يحضر "العنف" في التاريخ الإنساني بأشكال مختلفة وبشكل قوي وبارز، مما يقود إلى اعتباره أحد المظاهر المُمَثِّلة للصيرورة التاريخية على مُختلف مستوياتها. وإذا كانت المجتمعات الإنسانية شهدت ولا تزال مختلف أنواع الصراع العنيف، فإن تجليات "العنف" في التاريخ البشري متعددة ومعقدة على نحو يجعلها موضوعا لتأويلات مختلفة تربطها بآليات التطور التاريخي أو بآليات التفاعل الاجتماعي في علاقته باستعدادات الطبيعة البشرية وتحولات الوسط الطبيعي والثقافي حيث تتم فاعلية الإنسان.
3- العنف والمشروعية
* تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "العنف" بكل من "الحق" و"القانون"؟ هل كل عنف يُعَدُّ، بالتحديد، غير مشروع من الناحية الأخلاقية والقانونية أم أن هناكـ بعض أنواع "العنف" المقبولة والمشروعة اجتماعيا وقانونيا؟
* مفاصل المعالجة
إن قيام "المجتمع المدني" يستوجب تفويض أمر استعمال العنف للسلطة المشروعة كما تمثلها "الدولة". ولهذا يؤكد ماكس ﭭـيبر أن "الدولة" لا يُمكنها أن تُوجَد إلا إذا خضع الناس للسلطة المشروعة كما تتجسد في التجمع السياسي الذي تُمثِّلُه والذي يجعلها تحتكر استعمال العنف المشروع بمقتضى أنها مجموعةٌ من المؤسسات التي تقوم على "الشرعية القانونية" والتي تُوجِّهُها غاياتٌ تتمثل في ضمان "المصلحة العامة" لمجموع أعضاء المجتمع. وبالتالي فإن "العنف" في إطار المجتمعات الحديثة لا يكون مشروعا إلا انطلاقا من "الدولة" كمؤسسة سياسية وقانونية تضمن قيام المجتمع المدني والسياسي كتجمع يعمل على تنظيم أعضائه على نحو يجعلهم يقتنعون بأن من مصلحتهم نبذ العنف، حيث إن تَمَتُّعَهُم بكل حقوقهم يقتضي بالأساس انخراطهم السِّلْمِي والمدني في إطار النمط الحديث لممارسة السلطة أو السيطرة الذي يقوم على "الشرعية القانونية" التي تضمن هي وحدها المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين والتي تسمح بالتداول السلمي للسلطة وفق مجموعة من القواعد والإجراءات كما يتمثل ذلكـ في نموذج التنظيم الديموقراطي للمجتمع السياسي.
وثمة من يذهب إلى حَدِّ اعتبار العنف غير مشروع بتاتا، سواء أتى من "الدولة" أو من "المجتمع المدني"، لأنه يقوم على استعمال القوة الذي لا يمكن تسويغه من الناحية الأخلاقية. فالإنسان، في نظر غاندي، "روحٌ" تسمو على "المادة" من حيث إنه كائن أخلاقي يسعى إلى الفضيلة ويتجنب الرذيلة. وتتمثل الفضيلة في الوقوف ضد الشر ليس بمواجهته عن طريق مقاومته بالقوة المادية وإنما بمقاومته بواسطة قوة روحية تتمثل في فعل ما هو خير من خلال تبني إرادة طيبة تجاه كل كائن حي بمحبته ومصادقته. فـ"اللَّاعُنف" يتحدد كغياب تام لكل إرادة سيئة تجاه الأحياء بدافع الحقد أو الكراهية، ومن ثم فهو ليس نزوعا سلبيا أو استسلاميا، بل إنه سعي نحو المناهضة الأخلاقية للشر بكل مظاهره من دون إلحاق الأذى بواحد من الأحياء. ومن هنا فإن القوة الحقيقية تتمثل في التعامل الإيجابي مع الآخر من الأحياء وتجنب إيذائه أو إيلامه.
* تركيب واستنتاج
يبدو أن ممارسة "العنف" في إطار المجتمعات الحديثة أصبحت موكولة إلى "الدولة" التي صار من حقها هي وحدها أن تضطلع بمهام حفظ الأمن والسلم وحماية الحقوق بكل الوسائل الممكنة في إطار ما تسمح به الشرعية القانونية. لكن تركيز "العنف" بين يدي "الدولة" لا يعني، في الغالب، اجتثاثه من كل زوايا المجتمع المدني، حيث إنه يستمر بأشكال ونِسَبٍ تكثر أو تقل حسب المجتمعات، وذلكـ إلى الحد الذي يؤدي إلى التشكيكـ في جدوى مواجهة "العنف العشوائي" للخارجين على الشرعية بـ"العنف المشروع" لمؤسسة الدولة. فبدلا من تقليص "العنف" في المجتمعات بواسطة التنظيم السياسي والقانوني، شهدنا على امتداد القرن العشرين حروبا عالمية وإقليمية طاحنة ومدمرة، بل حتى على مستوى المجتمعات المتقدمة يُلاحَظ ازدياد مظاهر "العنف" على كل المستويات. وإذا كانت حركات اللاعنف والسلام تتوسع عبر بلدان العالم كنوع من الحركات المضادة، فإن التجذر التاريخي والاجتماعي للعنف يجعل مثل هذه الحركات ضربا من الطوبى التي تُؤْمِن بأن "نسيم الحب يُمكن أن يطعن السيف بِوَرْدَةٍ" كما يقول الشاعر. لكن العنف المتجذر تاريخيا وثقافيا في كل المجتمعات يحتاج لا فقط إلى مقاومةٍ ماديةٍ ومعنوية، بل إلى تأسيس واقعي لآليات تصريف العنف سواء كان ماديا أو رمزيا ومن دون الوقوع في وهم أن "العنف" يكفي لاستئصاله تأكيد عدم مشروعيته القانونية أو الأخلاقية، إذ لا عنف أشد من تَوَهُّم أن العنف يُعَدُّ، بالتحديد، غير إنساني وأنه لا يمكن أن يكون ثمة عنف أخلاقي على الإطلاق.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
للمراسلة
هذه مرحلة اولى تجريبية ، يسعدني استقبال اراءكم و ملاحظاتكم و اقتراحاتكم
بعد ارسال الرسالة، سيتم توجيهكم تلقائيا إلى الصفحة الرئيسية
بعد ارسال الرسالة، سيتم توجيهكم تلقائيا إلى الصفحة الرئيسية